إن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني[1]
يوجد عبادة
تسمى (الجلهكية) وهم عبّاد الماء ، فإذا أراد أحدهم الصلاة تجرد من ثيابه
ولم يستر إلا عورته، ثم يدخل الماء إلى وسطه، فيقيم ساعة أو ساعتين أو
أكثر[2].
كما جاء في تعاليم الهندوسية:
يجب أن تعوّد نفسك على تقلبات الجو، فاجلس تحت الشمس المحرقة، وعش أيام المطر تحت السماء،
وارتد
الرداء المبلل في الشتاء، وليكون طعامك مما تنبته الأرض وإياك واللحم،
وعندما تبلغ الشيخوخة اترك الأهل وعش في الغابات ولا تقص شعرك ولا تقلم
أظافرك[3].
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
لقد كانت
رحمة صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب واضحة جَلِيَّة ظهرت في مواقف
عديدة في حياته صلى الله عليه وسلم ، وقد جمعنا بين القرآن والصلاة في مبحث
واحد لشدة ارتباطهما، كما أن الصلاة قد يُعَبَّر عنها بالقرآن، مثل قول
الله تعالى: "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا"[4]، قال ابن كثير ~: "يعني صلاة الفجر"[5].
لقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يحب الصلاة حبًا لا نستطيع وصفه بألسنتنا أو
بأقلامنا، ولكن ننقل وصفه هو صلى الله عليه وسلم لهذا الحب..
قال صلى الله عليه وسلم : "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"[6].
ومع هذا الحب العميق للصلاة إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا بأمته فلم يُرِدْ منهم الإكثار في هذا الجانب حتى لا يملُّوا.
دَخَلَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ
السَّارِيَتَيْنِ؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا الْحَبْلُ؟!" قَالُوا: هَذَا
حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم : "لَا. حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ
فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"[7].
وهذا التوجيه والتعليم يفعله مع
واحدة من أعظم نساء الأرض، فهي أم المؤمنين زينب بنت جحش <، وقد يُطلَب
منها ما لا يُطلَب من عامة النساء، ولكنها القاعدة التي لا خلاف عليها:
"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ"..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حريصًا على أن يظل العبد مربوطًا طيلة حياته بربه عز وجل، فلا يكسل في
لحظة، أو يُفرِّط في أخرى؛ ولذلك كان يحب العمل الدائم ولو كان قليلاً،
فهذا أصلح للعبد وللمجتمع..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ"[8].
وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من عدم التوازن فتضيع حقوق
الأسرة والمجتمع إذا صرف العبد وقته كله في الصلاة والقرآن، ولذلك كان ينصح
المكثِرِين بالتقليل والتخفيف، ومِنْ أشهر وأجمل مواقفه صلى الله عليه
وسلم ما حدث مع عبد الله بن عمرو بن العاص {. لقد كان عبد الله بن عمرو بن
العاص { من الصَّوَّامين القَوَّامين، وسنتحدث - إن شاء الله - عن صومه في
المبحث القادم، وكان يقوم كل ليلة بالقرآن فيختمه كاملاً!! وقد كان يظن
هذا هو الأفضل والأعظم، فدار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حوار
يستفسر فيه عبد الله عن كَمِّ القراءة الأمثل.. يقول عبد الله بن عمرو بن
العاص {: فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: "اخْتِمْهُ فِي
شَهْرٍ". قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: "اخْتِمْهُ
فِي عِشْرِينَ". قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:
"اخْتِمْهُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ". قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ. قَالَ: "اخْتِمْهُ فِي عَشْرٍ". قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "اخْتِمْهُ فِي خَمْسٍ". قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا رَخَّصَ لِي"[9].
فنحن في هذا
المثال نشاهد شابًا قويًا هو عبد الله بن عمرو بن العاص { يجادل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليصلي أكثر، وليقرأ القرآن كاملاً في أقصر مدة ممكنة،
وعلى الجانب الآخر يجادله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف عنه ويرحمه!
قد نتعجب من حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على التقليل من عبادة عبد
الله بن عمرو {، ولكن عند التدبر بعين الرحمة تجد أن الرسول صلى الله عليه
وسلم حريص على استمرارية عبد الله بن عمرو { في طريق العبادة دون كسل ولا
فتور ولا إرهاق شديد، وحريص على زوجته وأسرته أن يأخذا حقهما منه، وحريص
كذلك على المجتمع أن يصبح عبد الله بن عمرو { عضوًا فاعلاً فيه يعمل وينتج
ويُعلِّم ويجاهد ويتزاور.. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حريص على أن
يعيش عبد الله بن عمرو { حياة متوازنة، وذلك رحمة به ورحمة بمجتمعه..
ثم
إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزداد وضوحًا وجلاءً عندما يكون
الأمر خاصًا بعموم الأمة، فإن هذا الدين لم ينزل لمجموعة معينة من الناس
دون غيرهم، إنما نزل للكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف،
والغني والفقير، وغير ذلك من أصناف في داخل الأمة الواحدة.. إنه صلى الله
عليه وسلم يفهم أحوال الناس وظروفهم، ويرحمهم لأجل ذلك، ولا يريد أن يأتي
الرجل صلاة أو صلاتين ثم ينقطع كُلِّيَّةً بعد ذلك، بل هو ينظر برحمة إلى
حالته ويُقدِّرها، ومثل هذا الموقف حدث مع معاذ بن جبل >، وهو صحابي
جليل، وقريب جدًا من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان كثيرًا ما يمدحه
صلى الله عليه وسلم ويُثني عليه، ولكن هذه الدرجة القريبة من قلب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لتصبح مبررًا لأن يطيل معاذ > في
الصلاة فيقسو بذلك على المأمومين..
إن القسوة مرفوضة، حتى لو كانت في عبادة الصلاة !!
يحكي
جابر بن عبد الله { هذا الموقف فيقول: "أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ
وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي[10]، فَتَرَكَ
نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ
الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ
مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :
"يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟!! أَوْ أَفَاتِنٌ؟!! - ثَلَاثَ
مِرَارٍ - فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؛ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ
الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ"[11].
إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هذا الموقف يُعلِّم الأئمة أن يرحموا المصلين في
المساجد، ولا يشقُّوا عليهم بكثير صلاة أو قيام، وهذه هي الرحمة في قمة
صورها..
إنه يسعد صلى الله عليه وسلم بالإمام الذي يقرأ بالشمس
والليل أكثر من سعادته صلى الله عليه وسلم بالإمام الذي يقرأ بالبقرة
والنساء!!
أَلا فَلْيَفْهَمِ المسلمون دينهم!!
وألا فليعرف العالم رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
ومثله ما حدث منه صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان..
صَلَّى
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ
فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ
النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ
الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ،
وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ
تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ" وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ"[12].
إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله عز وجل يفرض على عباده ما يشاء في الوقت
الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعلم أيضًا أن
الله عز وجل قد جعل الأسباب، ولا يريد أن يكون هو سببًا لمشقة تحدث
للمسلمين، وقد شدَّد بنو إسرائيل على أنفسهم فشدد الله عليهم، وما قصة
البقرة بخافية[13]، ولذلك آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلِّي
قيام رمضان منفردًا لكي يرحم المسلمين بتقليل الفروض عليهم!
إن المرء
لا يملك عند رؤية هذه المواقف وأمثالها إلا أن يقول ما قاله رب العالمين
سبحانه وتعالى في كتابه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ[14]".