خلص محمد الأمم من تحجرها، ورفعها إلى سبيل الرقي و العمران[1]
تعد
الضرائب الباهظة التي تثقل كاهل الناس إضافة أخرى للمعاناة التي يحياها
الإنسان في عصرنا الحالي، وهناك الكثير من الدول التي تغالي في جبي الضرائب
بشكل لافت، وعلى سبيل المثال نجد أن الدنمارك تفرض على مواطنيها ضرائب
تساوي 68% من دخلهم، وهي بذلك تعتبر الأعلى على مستوى العالم[2].
لا
شك أن الأمم لا تقوم إلا ببذل وعطاء، ولا شك أن هناك الكثير من الأمور في
الدولة والمجتمع تحتاج إلى إنفاق وبسخاء، ومن هنا جاء الحضُّ على الإنفاق
في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرًا جدًا..
لكن
مع كون هذا الإنفاق مهمًا إلا أن رحمة الله عز وجل قضت أن تكون الزكاة
قليلة جدًا بالقياس إلى حجم المال المكنوز، فالزكاة لا تزيد على ربع العشر
في المال، وهذه رحمة بالغة من الله عز وجل، غير أن الله عز وجل فتح مجال
الصدقات واسعًا أمام المسلمين، لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِه، ولتسعد الأمة
بكاملها بسخاء أغنيائها..
ومع كون أمر الصدقات أمرًا محمودًا
لا شك في ذلك، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من رحمته أنه
يضبط حب المسلم المؤمن للإنفاق بضوابط الرحمة والرأفة واليسر، حتى يكاد
يمنع بعض الناس من التصدق لشعوره أنهم قد أفرطوا في ذلك!!
وهذا ما لا أعتقد أبدًا أنه موجود في أي قانون من قوانين العالم..
عندما أخطأ كعب بن مالك > بتخلفه عن جيش المسلمين الخارج إلى تبوك أراد أن يُكفِّر عن ذنبه بأن يتصدق بكل ماله.
قال
كعب بن مالك > لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا رسول الله إِنَّ
مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ
وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ
بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي
الَّذِي بِخَيْبَرَ"[3].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أرحم بكعب بن مالك من كعب نفسه، وأرحم بعيال كعب من رحمته هو بعياله!!
إنه
يعلم أن هذا اندفاع عاطفي نتيجة تأثره بتوبة الله عليه، ولذلك يمنعه من
أخذ قرار قد يؤثر عليه سلبًا مستقبلاً، وقد يقوده إلى الندم، وقد يؤدي به
إلى العِوز والحاجة، وهذا كله مرفوض ومنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم
برحمته الواسعة يدرك كل هذه الأبعاد، ولذلك منعه..
وعلى فراش المرض
ظن سعد بن أبي وقاص > عنه أنه سيموت فأراد أن يأخذ نفس القرار بالتصدق
بكل ماله، فماذا كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! يروي سعد بن أبي
وقاص > فيقول: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ يَعُودُنِي صلى الله عليه
وسلم مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ:
بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ
لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: بِالشَّطْرِ
قَالَ: لَا قُلْتُ: الثُّلُثُ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ
وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً
يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ
اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي
امْرَأَتِكَ"[4].
إنه منهج ثابت إذن!!
إنه مع حاجة الأمة للمال
إلا أن الرحمة تقتضي أن يُمسك المسلم بعض ماله، وهنا يحدده رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالثلثين، ويسمح بإنفاق الثلث في سبيل الله، ويوضح أن ذلك
كثير، بمعنى أن لو أنفقت أقل من ذلك فلا حرج عليك مطلقًا، بل أنت محمود
مأجور إن شاء الله تعالى، ثم إنه يشير في إبداع وروعة في آخر الحديث إلى أن
اللقمة التي تضعها في فم امرأتك هي من الصدقة المتقبلة، فيوضِّح هنا أن
هذا الإنفاق على البيت والأسرة ليس مذمومًا، بل على العكس هو واجب عظيم،
ومسؤولية حتمية، والتقصير فيها لا يُتَوَقَّع من مؤمن..
قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى
مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا
الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ"[5].
هل هناك مُوَافَقة للفطرة أعظم من ذلك؟!
وفي موقف عجيب يرويه لنا أبو هريرة > على جانب كبير من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة..
لقد
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يُحفِّز الناس على الصدقة، فقال:
"تَصَدَّقُوا" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ
قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ:
تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: تَصَدَّقْ
بِهِ عَلَى وَلَدِكَ قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى
خَادِمِكَ قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ!"[6].
إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يرحم هذا الرجل الفقير الذي
لا يملك إلا دنانير معدودة، فأمره أن ينفق على نفسه وزوجته وولده وخادمه
قبل أن يفكر في الصدقة، ثم أشار في الحديث إشارتين في غاية اللطف، حيث قال
في الأولى للرجل: "تصدق به على نفسك"، وتابع استخدام كلمة "تصدق" على
الزوجة والولد والخادم، لكي لا يشعر الرجل بغضاضة أو ألم لأنه لا يتصدق
بالمعنى الذي يفهمه الناس، وهو التصدق على الغريب، فأكد له أن ما يفعله هذا
هو صدقة، بل وصدقة مقدمة على غيرها، وأما الإشارة الثانية ففي آخر الحديث
حيث قال له عندما ذكر له دينارًا متبقيًا عنده بعد الإنفاق على البيت، قال:
"أنت أبصر!"، فهو هنا لا يلزمه بإنفاق هذا الدينار الزائد على الفقراء، بل
يحيله إلى رؤية الرجل، فقد يجد له مصرفًا مهمًا في بيته، وقد يُوسِّع به
على نفسه وأسرته، أو قد ينفقه خارج البيت في سبيل الله.. إن الرجل فقير،
وليس عليه زكاة، فليفعل في القليل الذي معه ما يشاء!
أي توازن ورحمة وحكمة!!
وأكثر
من ذلك.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الإنسان جُبِلَ على
حُبِّ رَحِمِه وأقاربه، فلم يجعل الإنفاق فقط على العائلة القريبة المكونة
من الزوجة والآباء والأولاد، إنما وسَّع الأمر، وجعله في الرحم بكامله، بل
إنه مجَّد الصدقة التي تُنفَقُ على الرَّحِم مع أن الإنسان يفعلها وهو راضٍ
مختار..
لقد جاءته زينب[7] امرأة عبد الله بن مسعود { تسأله سؤالاً
عجيبًا عن الصدقة قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ
الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ
مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :
صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ
بِهِ عَلَيْهِمْ"[8].
إن عبد الله بن مسعود > فقير، وزوجته غنية،
وفي عُرْفِ الناس أنها من الممكن أن تساعد زوجها بالمال، لا على سبيل
الصدقة ولكن على سبيل التعاون في الحياة، ولكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يلفت الأنظار هنا إلى أن هذا العطاء صدقة منها عليه؛ لأن النفقة على
الرجل فقط، فإذا أعطته المرأة من مالها، صار هذه صدقة منها عليه، ولذلك أخذ
الفقهاء من هذا الموقف أن المرأة يجوز لها أن تخرج زكاة مالها - وليس
الصدقة فقط - إلى زوجها إن كان فقيرًا مستحق الصدقة[9]!!
وهذا - والله - أبلغ رحمة، وأعظم اليسر..
إن
الإسلام ليس دينًا يهدف إلى مصادرة أموال الناس، أو أكل ثرواتهم، أو تحجيم
قدراتهم المالية.. إن الإسلام دين التوازن والشمول، ودين الرحمة واليسر،
وهو يهدف إلى عيش رغيد في الدنيا والآخرة معًا، ولعل دعاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي جمع فيه بين خير الدين والدنيا والآخرة يوضح رؤية
الإسلام للحياة..
قال صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي
دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي
فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي،
وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ
رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ"[10].
وصدق رب العزة في وصفه لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم حين قال:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[11]".