[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
إنه لابد لإدراك مدى كونه صلى الله عليه وسلم رحمة
للعالمين، من وصف الجاهلية العالمية الضاربة أطنابها على الأرض كلها في
القرن السادس المسيحي وما وصل إليه هذا العصر من الفساد والانحطاط، والقلق
والاضطراب, وماتضافر عليه من عوامل الإفساد والإضلال، والتدمير والإبادة
وما اجتمع فيه من أسباب الظلم والعدوان والجور والطغيان، وما انتهى إليه من
التدهور الديني والانحلال الخلقي والانحطاط النفسي والفساد الاجتماعي،
والتفكك الاقتصادي والانتشار السياسي؛ أديان محرفة، حركات هدامة، فلسفات
متطرفة، أخلاق متفككة، دماء سائلة، حروب دامية، سلطات جائرة فالجماهير
حائرة.
كان القرن السادس والسابع (للميلاد) من أحط أدوار التاريخ
بلاخلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة
تمسك بيدها وتمنعها من التردي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها، وشدة في
إسفافها، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه فنسي نفسه ومصيره، وفقد
رشده وقوة التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح .
أما حال الدين
فقد أصحبت الديانات العظمي فريسة العابثين والمتلاعبين، و لعبة المحرفين
والمنافقين، حتى فقدت روحها و شكلها، فلو بعث أصحابها الأولون وأنبياؤها
المرسلون لأنكروها وتجاهلوها.
قد أصبحت المسيحية نسيجاً خشيباً من
معتقدات وتقاليد لاتغذي الروح، ولا تمد العقل، ولاتشعل العاطفة، ولا تحل
معضلات الحياة، ولاتنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل
الجاهلين تحول بين الإنسان والفكر والعلم، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة
وثنية. يقول (Sale) مترجم القرآن إلى الإنكليزية عن نصارى القرن السادس
الميلادي: وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في
ذلك الكاثوليك في هذا العصر.[1]
ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها
مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم، شغلت فكر الأمة، واستهلكت ذكاءها،
وابتعلت قدرتها العملية، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً داميةً، وقتلا
وتدميرا وتعذيبا، وإغارة وانتهابا واغتيالا، وحولت الكنائس والبيوت معسكرات
دينية متنافسة، وأقحمت البلاد في حروب أهلية.[2]
هذا حال الروم من
أقصاها إلى أقصاها، أما مصر ذات النيل السعيد والخصب المزيد فكانت تحت
وطأة الدولة الرومية يقول الدكتور غوستاف لوبون: أكرهت مصر على انتحال
النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى دركات الانحطاط مقداراً فمقداراً إلى أن
جاء العرب, وكان أشدُّ البؤس و الشقاء مما تعانيه مصر التي غدت ميدان قتال
للمذاهب النصرانية، وكانت هذه المذاهب تكثر في ذلك الزمن و تتلاعن و تتقاتل
وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، و نهكتها مظالم الحكام تحقد
أشد الحقد على سادتها الروم الكئيبين، وكانت تَعُدُّ من يحررونها من براثن
أيدي قياصرة القسطنطينية منقذين.[3]
ويقول الدكتور الفرد.ج. بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر):
"فالحق
أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطراً عند الناس من أمور
السياسة.....ولم يكن نظر الناس إلي الدين أنه المعين يستمد منه الناس
مايعينهم على العمل الصالح, بل كان الدين نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول
معينة، فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من
فروق دقيقة بين المعتقدات، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة
لها، وفي سبيل فروق في أصل الدين, وفي فلسفات ما وراء الطبيعة يدق فهمها
ويشق إدراكها. [4]
هذا وقد اتخذها الروم شاة حلوبا يريدون أن يستنـزفوا مواردها ويمتصوا دمها، يقول الفرد بتلر:
إن
الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس و ضرائب أخرى كثيرة العدد...مما
لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير
عدل.[5]
وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني والاستبداد السياسي،
والاستغلال الاقتصادي ماشغلها بنفسها، وكدر عليها صفو حياتها، وألهاها عن
كل مكرمة[6].
أما الأمم الأوربية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت
تتسكع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية والحروب الدامية، وكانت بمعزل
عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية، بعيدة عنها، لاتعرف عن العالم ولايعرف
العالم المتمدن عنها إلا قليلا ......وكانت بين نصرانية وليدة ، ووثنية
شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولابذات راية في السياسة ۔[7]
يقول هـ .ج. ويلز:
"ولم تكن في أوربا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام.[8]"
ويقول (Robert Briffault)
قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم ....
وقد
كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في
الماضي،كإيطاليا وفرنسا، فريسةالدماروالفوضى والخراب.[9] كانت أوربا
الغربية أسوءحالاً منه، يقول البروفيسور تيلي في كتابه تاريخ الفسلفه:
لعل
القرنين السابع والثامن كانا أظلم عهد في تاريخ حضارة أوربا الغربية، إنه
كان عهد بربرية وجهالة لا نهاية لها، غمرت فظائعها و أعمال تدميرها جميع
المنجزات الأدبية والجماعية للعهد الماضي الكلاسيكي.[10]
كانت أوربا في حضيض من الجهالة والتخلف.
يقول دريبر وهو يصف هذا الوضع الشائن:
يصعب
القول عن سكان أوربا القدماء بأنهم تجاوزوا مرحلة البربرية والوحشية، فقد
كانت أجسامهم قذرة، وأخيلتهم مفعمة بالأوهام، يؤمنون إيماناً راسخاً بكل ما
ينقل من الأساطير والحكايات التافهة التي لا أساس لها عن كرامات الصرائح
ودعاوي القداسة المزعومة[11].
أما سوريا، ولاية الأمبراطورية
البيزنطينية الأخرى، فكانت مطية المطامع الرومانية، وكان الحكم حكم
الغرباء، الذي لا يعتمد إلا على القوة ولايشعر بشيئ من العطف على الشعب
المحكوم، وكثيراً ما يبيع السوريون أبناءهم ليوفوا ما كانت عليهم من ديون،
وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق.[12]
أما اليهودية: فقد أصبحت
مجموعة من طقوس وتقاليد لاروح فيها ولاحياة وهي- بصرف النظر عن ذلك- ديانة
سلالية، لا تحمل للعالم رسالة ولاللأمم دعوة، ولاللإنسانية رحمة[13].
ثم
هناك صراع عنيف و حـروب دامية ضارية بين اليهود و النصارى، ذهبت ضحيتها
مئات الألوف من الناس, قتلاً بالسيف، وشنقاً، وإحراقاً و تعذيباً حتى و
رمياً للوحوش الكاسرة.
أما المجوس فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة
العناصر الطبيعية أعظمها "النار", وقد عكفوا على عبادتها أخيراً، فانقرضت
كل عقيدة وديانة غير عبادة النار وتقديس الشمس، وأصبحت الديانة عندهم عبارة
عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصة، أما خارج المعابد فكانوا أحراراً،
يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين
من لا دين لهم ولا خلاق، في الأعمال والأخلاق.
أما البوذية
-الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها
الأصنام حيث سارت وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيت حلت ونزلت.
أما
البرهمية -دين الهند الأصيل المعروف الآن بالهندوسية فقد امتازت بكثرة
المعبودات والآلهة والإلهات، وقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس, فبلغ
عدد الآلهة في هذا القرن إلى۳۳۰ مليون، وقد أصبح كل شئ رائع، وكل شئ هائل،
وكل شئ نافع، إلهاً يعبد، وارتفعت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد،
وتأنّق فيها المتأنقون.[14]
قال العلامة رحمة الله الكيرانوي:
إنه
(أي محمداً r ) ظهر في وقت كان الناس محتاجين إلى من يهديهم إلى الطريق
المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم، لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان و
وأد البنات، والفرس على اعتقاد الالهين و وطء الأمهات والبنات، والترك على
تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر، والسجود للشجر و
الحجر، واليهود على الجحود ودين التشبيه وترويج الأكاذيب المفتريات،
والنصارى على القول بالتثليث و عبادة الصليب و صور القدّيسن و القديسات،
وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال، والانحراف عن الحق والاشتغال بالمحال،
ولايليق بحكمة الله الملك المبين أن لا يرسل في هذا الوقت أحداً يكون رحمة
للعالمين، وما ظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم، ويؤسس هذا البنيان القويم
غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم،فأزال الرسوم الزائغة، والمقالات
الفاسدة، وأشرقت شموس التوحيد، وأقمار التنـزيه، وزالت ظلمة الشرك
والثنوية، والتثليث، والتشبيه، عليه من الصلاة أفضلها و من التحيات
أكملها.[15]