إرسال موسى لفرعون وقومه
قال الله تعالى : " فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين "
وقال في النمل : " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم "
وقال في سورة طه : " فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى "
قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج وكل ما لتلك النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الضجرة في ازدياد فوقف متعجباً وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه ، كما قال تعالى : " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين " وكان موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوي ، فأمر أولاً بخلع نعليه تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة ولا سيما في تلك الليلة المباركة
وعند أهل الكتاب : أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور ، مهابة له وخوفاً على بصره
ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له : " إني أنا الله رب العالمين " " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو ، الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له
ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، و إنما الدار الباقية يوم القيامة التي لا بد من كونها ووجودها : " لتجزى كل نفس بما تسعى " أي من خير وشر ، وحضه وحثه على العمل لها ، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصي مولاه واتبع هواه ، ثم قال مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل شيء ، والذي يقول للشيء كن فيكون : " وما تلك بيمينك يا موسى " أي أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها ؟ أي بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها ،
" قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى "
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول لشيء كن فيكون ، وأنه الفعال بالإختيار
وعند أهل الكتاب : أنه سأل برهاناً صادقاً على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك ؟ قال : عصاي ، قال : ألقها إلى الأرض " فألقاها فإذا هي حية تسعى " فهرب موسى من قدامها فأمر الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده
وقد قال الله تعالى في الآية الآخرى : " وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له : الجان والجنان ، وهو لطيف ولكن سريع الإضطراب والحركة جداً ، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام : " ولى مدبرا " أي هارباً منها ، لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك " ولم يعقب " أي ولم يلتفت ، فناداه ربه قائلاً له : " يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين "
فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها " قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى " فيقال إنه هابها شديداً ، فوضع يده في كم مدرعته ثم وضع يده في وسط فمها وعند أهل الكتاب : أمسك بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين ، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين !
ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء ، أي من غير برص ولا بهق ، ولهذا قال : " اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب " قيل معناه : إذا حفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك
وهذا وإن كان خاصاً به ، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الإقتداء بالأنبياء
وقال في سورة النمل : " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " أي هاتان الآيتان وهما : العصا واليد ، هما البرهانان المشار إليهما في قوله : " فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان ، حيث قال تعالى : " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا "
وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه
وهذه التسع الآيات غير العشر الكلمات فإن التسع من كلمات الله القدرية ، والعشر من كلماته الشرعية ، وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة ، فظن أن هذه هي هذه ، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل
* * *
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون : " قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون "
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام ، في جوابه لربه عز وجل ، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا : " قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " أي أجعله معي معيناً وردءاً ووزيراً يساعدني ، ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لساناً وأبلغ بياناً
قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله : " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا " أي برهاناً " فلا يصلون إليكما " أي فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا ، وقيل ببركة آياتنا " أنتما ومن اتبعكما الغالبون "
وقال في سورة طه : " اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي " قيل إنه أصابه في لسانه لثغة ، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، والتي كان فرعون أراد اختبار عقله ، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله ، فخافت عليه آسية وقالت : إنه طفل ، فاختبره بوضع ثمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ الثمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة ، فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية
قال الحسن البصري : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت في لسانه بقية
ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم أنه يعيب به الكليم : " ولا يكاد يبين " أي يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده
ثم قال موسى عليه السلام : " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك يا موسى "
أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم ، قال الله تعالى : " وكان عند الله وجيها " وقال تعالى : " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا "
وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج : أي أخ أمن على أخيه ؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه قال الله تعالى : " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا "
* * *
وقال تعالى في سورة الشعراء : " وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين "
تقدير الكلام : فأتياه فقالا له ذلك ، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه
فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغي ، ونظر إلى موسى بعين الإزدراء والتنقص قائلاً له : " ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا ؟ وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر ؟
وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافاً لما عند أهل الكتاب : من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر
وقوله : " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " أي وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا وجحدت نعمتنا
" قال فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي ، " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين "
ثم قال مجيباً لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه : " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك
" قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون "
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم ، من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية
وذلك أن فرعون - قبحه الله - أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله : " فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى " " وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري "
وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارئ المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "
ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما نم رب أرسله : " وما رب العالمين " لأنهما قالا له : " إنا رسول رب العالمين " فكأنه يقول لهما : ومن رب العالمين ؟ الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما ؟
فأجابه موسى قائلاً : " رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتعددة ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين
" قال " أي فرعون " لمن حوله " من أمرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام : " ألا تستمعون " يعنى كلامه هذا
" قال " موسى مخاطباً له ولهم : " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد ، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق "
ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه : " قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسيرة للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ، والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ، ولم يبق له قول سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين "
وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين أي عظيم
الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال
وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه واستخرجها رجعت إلى صفتها الأولى
ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملئه ، وأهل دولته وملته ولله الحمد والمنة
* * *
وقال تعالى في سورة طه : " فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى * واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى "
يقول تعالى مخاطباً لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهداً لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت فيها سنين " ثم جئت على قدر " أي منى لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري " واصطنعتك لنفسي " أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي
" اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " يعني ولا تفترا في ذكري إذا قدمتما عليه ووفدتما إليه ، فإنه ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ، وأداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه
وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون "
ثم قال تعالى : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه ، وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعوا إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ، ويعاملاه بألطف معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى
كما قال لرسوله : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " وقال تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم " قال الحسن البصري : " فقولا له قولا لينا " أعذرا إليه ، قولا له : إن لك رباً ولنا معاداً ، وإنما بين يديك جنة وناراً
وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ !
" قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وذلك أن فرعون كان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه وجنود ، وعساكر وسطوة ، فهاناه من حيث البشرية ، وخافا أنا يسطو عليهما في بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال : " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " كما قال في الآية الأخرى : " إنا معكم مستمعون "
" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى ، أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم " قد جئناك بآية من ربك " وهو البرهان العظيم في العصي واليد ، " والسلام على من اتبع الهدى " تقييد مفيد بليغ عظيم ، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا : " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه
وقد ذكر السدي وغيره : أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل علي أمه وأخيه هارون ، وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وهو اللفت ، فآكل معهما ، ثم قال : يا هارون إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي ، فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق فقال موسى للبوابين والحجبة ، أعلموه أن رسول الله بالباب فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل ، قال محمد بن إسحاق : أذن لهما بعد سنتين ، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الإستئذان لهما فالله أعلم ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه ، فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما
وعند أهل الكتاب : أن الله قال لموسى عليه السلام : إن هارون اللاوي - يعنى الذي من نسل لاوي بن يعقوب - سيخرج ويتلقاك ، وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى فرعون ، وأمره أن يظهر ما آتاه من الآيات وقال له : إني سأقسى قلبه فلا يرسل الشعب ، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر وأوحي الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب ، فلما تلقاه أخبره موسى أمره به ربه فلما دخلا مصر جميعاً شيوخ بني إسرائيل وذهبا إلى فرعون ، فلما بلغاه رسالة الله قال : من هو الله ؟ لا أعرفه ولا أرسل بني إسرائيل
* * *
وقال الله مخبراً عن فرعون : " قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى "
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلاً : " فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " أي هو الذي خلق الخلق وقدر لهم أعمالاً وأرزاقاً وآجالاً ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه ، وقدرته وقدره لكمال علمه ، وهذه الآية كقوله تعالى : " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه
" قال فما بال القرون الأولى " يقول فرعون لموسى : فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره ؟ وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت ؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى ؟ " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ، ولا يدل على خلاف ما أقول لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر ، من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي عز وجل ، ولا يظلم أحداً مثقال ذرة ، لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء ولا ينسى ربي شيئاً
ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء ، وجعله الأرض مهاداً والسماء سقفاً محفوظاً ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ، كما قال : " كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي لذي العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير المستقيمة ، فهو تعالى الخالق الرازق ، كما قال تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على المعاذ فقال : " منها " أي من الأرض " خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " كما قال تعالى : " كما بدأكم تعودون " وقال تعالى : " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "