منتديات روافد الحكمه
منتديات روافد الحكمه
منتديات روافد الحكمه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات روافد الحكمه

منتيات اسلاميه اجتماعيه ثقافيه
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 سورة البقرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ebrehim
Admin
ebrehim


عدد المساهمات : 459
تاريخ التسجيل : 06/06/2012
العمر : 52

سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: سورة البقرة   سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أغسطس 19, 2012 8:22 pm

سورة
البقرة

مدنية
مائتان
وستة وثمانون آية نزلت في مُدَد شتى .
وقيل : هي أول سورة نزلت ب " المدينة "
إلا قوله تعالى : ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ( [ البقرة : 281 ] فإنها آخر
آية نزلت ، ونزلت يوم النحر في حَجّة الوداع ب " منى " ، وآيات الرِّبا أيضاً من
أواخر ما نزل من القرآن .
قال خالد بن معدان : ويقال لها : فُسطاط القرآن
.
وتعلمها عمر - رضي الله عنه - بفقهها ، وما تحتوي عليه في اثني عشرة سنة ،
وابنه عبد الله في ثماني سنين .
قال ابن العربي رضي الله عنه : " سمعت بعض
أشياخي يقول : فيها ألف أَمْر ، وألف نَهْي ، وألف حُكْم ، وألف خَبَر " .
وهي
مائتان وستة وثمانون آيةً ، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمةً ، وخمسة وعشرون
ألفاً وخمسمائة حرف . عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) : " إن لكل شيء سَنَاماً وإنِّ سَنَام القرآن سورةُ البقرة ، من
قَرَأَهَا في بيته نَهَاراً لم يدخله شَيْطَانٌ ثلاثةَ أيامٍ ، ومن قرأها في بيته
ليلاً لم يدخله شيطانٌ ثلاثَ ليالٍ " .

" "
صفحة رقم 251 " "
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : بعث النبي - ( صلى
الله عليه وسلم ) - بعثا ثم أتبعهم بسفر ، فجاء إنسان منهم فقال : " ما معك من
القرآن ؟ " حتى اتى على أحدثهم سنا فقال له : " ما معك من القرآن ؟ " قال : كذا
وكذا ، وسورة البقرة فقال : " اخرجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا : يا رسول الله هو
أحدثنا فقال : " معه سورة البقرة " .
بسم الله الرحمن الرحيم
( الم ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (
إن قيل : إن الحروف
المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي ، بمعنى أن الميم اسم ل " مه " والعين
ل " عَه " ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من
كلامهم ، ولكن عجزتم عنه ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، وإنما جيء بها لهذه
الفائدة ، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو : " واحد اثنان " ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة
، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال :
أحدها :
ما تقدم .
والثاني : أنها معربة ، بمعنى أنها صالحة للإعراب ، وإنما فات شرطه
وهو التركيب ، وإليه مال الزمخشري رحمه الله .
والثالث : أنها موقوفة أي لا
معربة ولا منيبةٌ .
أو إن قيل : إنها أسماء السور المفتتحة بها ، أو إنها بعض
أسماء الله - تعالى - حذف بعضها ، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن
عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله : الميم من " عليهم " ، والصاد من " صادق " ،
فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر : فالرفع على أحد وجهين
أيضاً : إما بإضمار فعلٍ لائقٍ ، تقديره : اقرءوا : " الم " ، وإما بإسقاط حرف
القسم ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
97 - إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ
بِلَحْمٍ
فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ

" "
صفحة رقم 252 " "
يريد : وأَمَانَةِ الله .
وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها
.
وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه : أنّ القرآن في : ( وَالْقُرْآنِ
ذِى لذِّكْرِ ( [ ص : 1 ] وللقلم في ) ن اوَ الْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( [ القلم
: 1 ] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة
عليها للقسم ، أو للعطف ، والأول يلزم منه محذور ، وهو الجمع بين قسمين على مقسم
قال : [ وهم يستكرهون ] ذلك .
والثاني ممنوع ، لظهور الجَرِّ فيما بعدها ،
والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب ، وهو ردّ واضح ، إلا أن يقال : في
محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [ فيما بعده ] كالموضعين المتقدمين ؛ ) حم اوَ
الْكِتَابِ ( [ الزخرف : 1 - 2 ] ، و ) ق اوَ الْقُرْآنِ ( [ ق : 1 ] ولكن القائل
بذلك لم يفرق بين موضع وموضع ، فالرد لازم كله .
والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ ، وهو
أنها مقسمٌ بها ، حذف حرف القسم ، وبقي عمله كقولهم : " اللهِ لأفعلنَّ " أجاز ذلك
الزمخشري ، وأبو البقاء رحمهما الله ، وهذا ضعيف ؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة
المعظمة لا يشاركها فيه غيرها .
فتخلص مما تقدم أن في " الم " ونحوها ستة أوجه
وهي : أنها لا محل لها من الإعراب ، أوْ لَهَا محل ، وهو الرفع بالابتداء ، أو
الخبر .
والنَّصب بإضمار فعل ، أو حذف حرف القسم .

" "
صفحة رقم 253 " "
فصل في الحروف المقطعة
سئل الشعبي - رحمه الله تعالى - عن
هذه الحروف فقال : سرّ الله ، فلا تطلبوه .
وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس -
رضي الله عنهما - قال : عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا ، وقال الشعبي وجماعة رحمهم
الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه ، وهي
سرّ القرآن ؛ فنحن نؤمن بظاهرها ، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى .
قال أبو
بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : " في كل كتاب سِرّ " وسرُّ الله - تعالى - في
القرآن أوائل السور " .
ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا
القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق ،
واحتجوا عليه بآيات منها :
قوله تبارك وتعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ( [ محمد : 24 ] بالتدَّبر في القرآن ،
ولو كان غير مفهوم ، فكيف يأمر بالتدبّر فيه .

" "
صفحة رقم 254 " "
وكذا قوله ) أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( [ النساء : 82 ] فكيف يأمر بالتدبر لمعرفة نفي التناقض
والاختلاف ، وهو غير مفهوم للخلق ؟
ومنها قوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين
على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ( [ الشعراء : 193 - 195 ] ، فلو لم
يكن مفهوما بطل كون الرسول - عليه السلام - منذرا به ، وأيضا قوله : ( بلسان عربي
مبين ( يدل على أنه نازل بلغة العرب ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما .
ومنها
قوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( [ النساء : 83 ] ، والاستنباط منه لا
يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه .
ومنها قوله تعالى : ( تبيينا لكل شيء ( [ النحل :
89 ] .
وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ( [ الأنعام : 38 ]
.
وقوله تعالى : ( هدى للناس ( [ البقرة : 185 ] ، ) هدى للمتقين ( [ البقرة : 2
] ، وغير المعلوم لا يكون هدى .
وقوله تعالى : ( وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة
للمؤمنين ( [ يونس : 57 ] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم .
وقوله تبارك
وتعالى : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( [ المائدة : 15 ] .
وقوله تعالى :
( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون
( [ العنكبوت : 51 ] فكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم
؟
وقوله تعالى : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ( [ إبراهيم : 52 ] ، فكيف يكون
بلاغا ؟ وكيف يقع به الإنذار مع أنه غير معلوم ؟
وقال في آخر الآية : ( ولينذروا
به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) ، وإنما يكون كذلك لو كان
معلوما .
وقوله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( [ الإسراء : 9 ]
فكيف يكون هاديا ، مع أنه غير معلوم ، ومن الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام : "
إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي " فكيف يمكن
التمسك به وهو غير معلوم ؟
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه -
عليه الصلاة والسلام - قال :

" "
صفحة رقم 255 " "
" عليكم بكتاب الله - فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر من بعدكم ،
وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله تعالى . ومن اتبع
الهدى في غيره أضله الله - تعالى - هو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط
المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع به العلماء ، ولا يخلق عن كثرة
الرد ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن
دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " .
ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم
إلا به لكانت المخاطبة به نحو مخاطبة العرب باللغة الزنجية ، ولما لم يجز ذلك فكذا
هذا .
وأيضا المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا
وسفها ، وهو لا يليق بالحكيم .
وأيضا أن التحدي وقع بالقرآن ، وما لا يكون
معلوما لا يجوز وقوع التحدي به .
واحتج مخالفوهم بالآية ، والخبر ، والمعقول
.
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن ، وأنه غير معلوم ؛ لقوله تعالى : ( وما
يعلم تأويله إلا الله ( [ آل عمران : 7 ] والوقف ها هنا ، لوجوه :
أحدها : أن
قوله تعالى : " والراسخون في العلم " لو كان معطوفا على قوله تعالى " إلا الله "
لبقي قوله : " يقولون آمنا به " منقطعا عنه ، وإنه غير جائز ؛ لأنه لا يقال : إنه
حال ، لأنا نقول : فحينئذ يرجع إلى كل ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا :
( يقولون آمنا به كل من عند ربنا ( وهذا كفر .
وثانيها : أن الراسخين في العلم
لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنهم لما عرفوه
بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد
مدح .
وثالثها : أن تأويلها كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما ،
لكن قد جعله ذما حيث قال : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله ( [ آل عمران : 7 ] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصلاة
والسلام - قال : " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى
فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله " .

" "
صفحة رقم 256 " "
ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر
الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقَّاً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "
أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم " . وأما المعقول فهو أنَّ
الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان : منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على
الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات ، والسَّعي بين الصفا
والمروة ، والرَّمل ، والاضْطِبَاع .
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله
- تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول ، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني ؛ لأنّ
الطَّاعة في النوع الأول ، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم ، لاحتمال أن المأمور
إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه .
أما الطاعة في النوع الثاني
، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال ، فلم
لا يجوز أيضاً أن يكون [ الأمر ] كذلك في الأقوال ؟ وهو أن يأمر الله - تعالى -
تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارةً بما لا نقف على معناه ، ويكون
المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم .
القول الثَّاني : قول من زعم أنَّ
هذه الفَوَاتح معلومة ، واختلفوا فيه ، وذكروا وجوهاً :
الأوّل : أنها أسماء
السّور ، وهو قول أكثر المتكلمين ، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى
.
قال القفَّال - رحمه الله تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب "
لام " : والد حارثة بن لام الطَّائي ، وكقولهم للنَّخاس : " صاد " ، وللنقد : " عين
" ، وللسحاب : " غين " .
وقالوا : جبل " قاف " ، وسموا الحوت : " نوناً "
.
الثاني : أنها أسماء الله تَعَالى ، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه
كان يقول : يا حم عسق .
الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى
.

" "
صفحة رقم 257 " "
قال سعيد بن جبير رحمه الله : قوله : " الر ، حم ، ونون "
مجموعها هو اسم الرحمن ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي .
الرابع
: أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكَلْبِيّ - رحمه الله تعالى - والسّدي وقتادة رضي
الله تعالى عنهم . الخامس : أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى
- وصفة من صفاته .
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في " الم " : " الألف
إشارة إلى أنه [ أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، " واللام " إشارة إلى أنه لطيف ، "
والميم " إشارة إلى أنه ] مَلِك مَجِيد مَنَّان " .
وقال في " كهيعص " : إنه
ثناء من الله - تعالى - على نفسه ، " والكاف " يدل على كونه كافياً ، " والهاء "
على كونه هادياً ، " والعين " على العالم ، " والصاد " على الصادق . وذكر ابن ابن
جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل " الكاف " على الكبير والكريم ،
" والياء " على أن الله يجير ، " والعين " على أن الله العزيز والعدل .
والفرق
بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي
الثاني ليس كذلك .
السادس : بعضها يدلّ على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء
الصّفات .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في " الم " أنا الله أعلم ، وفي "
المص " أنا الله أفصل ، وفي " الر " أنا الله أرى ، وهذه رواية أبي صالح ، وسعيد بن
جبير عنه .
قال الزَّجَّاج : " وهذا أحسن ، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها
كقولهم : [ مشور السريع ]
98 - قُلْنَا لَهَا : قِفِي لَنَا قَالت : قَافْ
.
.

" "
صفحة رقم 258 " "
وأنشد سيبويه لغيلان : [ الرجز ]
99 - نَادُوهُمْ أَنَ
الْجِمُوا ، أَلاَ تَاَ
قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا
أي : لا
تَرْكَبُوا ، قالوا : بَلَى فَارْكَبُوا .
وأنشد قُطْرب : [ الرجز ]
100 -
جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا
تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني
وَتَا
السّابع : كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال ، ف " الألف " آلاؤه ، و "
اللاّم " لُطْفه ، و " الميم " مَجْدُه ، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي
.
الثَّامن : بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير
الله تعالى .
قال الضَّحاك : " الألف " من الله ، و " اللم " من جبريل ، و "
الميم " من محمد عليه الصلاة والسلام [ أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه
الصَّلاة والسلام ] .
التاسع : ما قاله المبرّد : واختاره جمعٌ عظيم من
المحقَّقين - أن الله - تعالى - إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار ، وذلك أن
الرَّسول - عليه الصلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن ، أو
بِعَشْرِ سُوَرٍ ، أو بسورة ، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن
ليس إلاّ من هذه الأحرف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفَصَاحة ، فكان
يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا
من البَشَرِ .
العاشر : قول أبي روق وقُطْرب : إن الكفَّار لما قالوا : ( لاَ
تَسْمَعُواْ لِهَ اذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( [ فصلت : 26 ] وتواصوا
بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا
يعرفونه ، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم ، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ،
فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف ، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين :
اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن
فكان ذلك سبباً لاستماعهم ، وطريقاً إلى انتفاعهم ، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من
الكلام كقوله الأول .

" "
صفحة رقم 259 " "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wisdom.ahlamontada.com
ebrehim
Admin
ebrehim


عدد المساهمات : 459
تاريخ التسجيل : 06/06/2012
العمر : 52

سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة   سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أغسطس 19, 2012 8:23 pm

الحادي عشر : قول أبي العَالِيَةِ " إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين "
.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - (
صلى الله عليه وسلم ) - وهو يَتْلُو سورة البقرة " الم ذَلِكَ الكِتَابُ " ، ثم أتى
أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب ، وكَعْب بن الأَشْرَف ، وسألوه عن " الم " وقالوا : ننشدك
الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء ؟ فقال النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) : " نعم كذلك نزلت " ، فقال حُيَيّ : إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ
هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل
على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً ، فضحك رسول الله - ( صلى الله عليه
وسلم ) - فقال حُيَيّ : فهل غير هذا ؟ قال : " نعم المص " فقال حُيَيّ : هذا أكثر
من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهب غير هذا ؟ قال : " نعم الر " قال
حُيَيّ : هذه أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا
مائتين وإحدى وثلاثين سنةً ، فهل غير هذا ؟ قال : " نعم " قال : " المر " قال :
فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوال نأخذ .
فقال أبو ياسر :
أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة ، ولم يبينوا أنها
كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام
اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير ؟
فذلك قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( [ آل عمران : 7 ]
الآية الكريمة .
ورُوي عن ابن عَبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنا أقسام
.
وقال الأخفش : أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها ؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة
، ومباني أسمائه الحسنى .
وقيل فيها غير ذلك .
واعلم أن الله - تعالى - أورد
في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم ،

" "
صفحة رقم 260 " "
وهي أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ،
والكاف ، والهاء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والباء ، والنون
في تسع وعشرين سورة .
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد ، فوردت " ص ق ن " على حرف
.
و " طه وطس ويس وحم " على حرفين . و " الم والر وطسم " على ثلاثة أحرف .
و
" كهيعص وحم عسق " على خمية أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى
خمسة أحرف ، فكذا هاهنا .
قوله : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ (
يجوز في " ذلك " أن
تكون مبتدأ ثانياً ، و " الكتاب " خبره ، والجملة خبر " الم " ، وأغنى الربط باسم
الإشَارة ، ويجوز أن يكون " الم " مبتدأ .
و " ذلك " خبره ، و " الكتاب " صفة ل
" ذلك " ، أو بدل منه ، أو عطف بيان ، وأن يكون " الم " نبتدأ ، و " ذلك " مبتدأ
ثانٍ ، و " الكتاب " : إما صفة له ، أو بدل منه ، أو عطف بيان له .
و " لا ريب
فيه " [ خبر ] عن المبتدأ الثاني ، وهو خبره خبر عن الأول .
ويجوز أن يكون " الم
" خبر مبتدأه مضمر ، تقديره : " هذا الم " ، فتكون جملة مستقلة بنفسها ، ويكون "
ذلك " مبتدأ ثانياً ، و " الكتاب " خبره .
ويجوز أن يكون صفة له ، أو بدلاً ، أو
بياناً ، و " لا ريب فيه " هو الخبر عن " ذلك " أو يكون " الكتاب " خبراً ل " ذلك "
، و " لا ريب فيه " خبر ثان ، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر ، وأحدهما جملة ،
لكن الظاهر جوازه ؛ كقوله تعالى : ( فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( [ طه : 20 ] ،
إذا قيل بأن " تسعى " خبر .
وأما إن جُعِلَ صفة فلا .
و " ذلك " اسم إشارة :
الاسم منه " ذا " ، و " اللاَّم " للبعد ، و " الكاف " للخطاب ، ولها ثلاث رُتَب
:
دُنْيَا : ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو : " ذا وذي " و " هذا وهذي "
.
وَوُسْطَى : ولها المتّصل بحرف الخطاب ، نحو " ذاك وذيك وتيك " .
وقُصْوَى
: ولها المتّصل ب " اللام " و " الكاف " نحو : " ذلك وتلك "
.

" "
صفحة رقم 261 " "
ولا يجوز أن تأتي ب " اللام " إلاّ مع " الكاف " ، ويجوز دخول
حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع " اللاَّم " ، فيمتنع للطول
.
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين : دُنْيَا وغيرها . واختلف النحويون في "
ذا " هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد ؟
الأول قول البصريين ، ثم اختلفوا على
عينه ولامه ياء ، فيكون من باب " حيي " ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب "
غويت " ثم حذفت لامه تخفيفاً ، وقلبت العين ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ،
وهذا كله على سبيل التّمرين .
وأيَّا فهذا مبني ، والمبني لا يدخله تصريف ،
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه : [ الطويل ]
101 -
أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ
تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا
ذَلِكَا
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد .
أو لأنه
كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام .
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره
في اللَّوح المحفوظ .
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد ،
وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً ، فعبروا عن الحاضر
ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك . وقال الأصَمّ وابن كيْسَان :
إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة " البقرة "

" "
صفحة رقم 262 " "
سوراً كذب بها المشركون ، ثم أنزل سورة " البقرة " فقال : "
ذلك الكتاب " يعني ما تقدّم " البقرة " من السّور لا شك فيه .
قال ابن الخَطِيب
رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر ، لكن لا نسلّم أن لفظة " ذلك " لا
يشار بها إلا إلى البعيد .
بيانه : أن " ذلك " و " هذا " حرف إشارة ، وأصلهما "
ذا " لأنه حرف الإشارة ، قال تعالى : ( مَّن ذَا الَّذِي ( لبقرة : 245 ]
.
ومعنى " ها " تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي : تَنَبَّهْ
أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه ، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه ، وقد تدخل " الكاف "
على " ذَا " للمخاطبة ، و " اللام " لتأكيد معنى الإشارة ، فقيل : " ذلك " ، فكأن
المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه ، فهذا يدلّ على أن لفظة " ذلك
" لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع ، بل اختص في العُرْف بالفرس ، وإن كانت في أصل
الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض .
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا
على مقتضى الوضع اللّغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البُعْد ،
ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر .
قال تعالى : (
وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ( [ ص : 45 ] ، إلى قوله : (
وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ( [ ص : 48 ] ثم قال : ( هَ اذَا ذِكْرٌ ( [ ص : 49 ]
وقال : ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَ اذَا مَا تُوعَدُونَ ( [ ص
: 52 - 53 ] .
وقال : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا
كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( [ ق : 19 ] .
وقال تعالى : ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأُوْلَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ( [ النازعات :
24 - 25 ] .
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى لزَّبُورِ ( [ الأنبياء :
105 ] وقال تعالى : ( إِنَّ فِي هَ اذَا لَبَلاَغاً ( [ الأنبياء : 106 ] .
وقال
: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِى للَّهُ الْمَوْتَى ( [
البقرة : 73 ] [ أي هكذا يحيي الموتى ] .
وقال : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ى
مُوسَى ( [ طه : 18 ] أي ما هذه التي بيمينك .

" "
صفحة رقم 263 " "
و " الكتاب " في الأصل مصدر ؛ قال تعالى : ( كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ ( [ النساء : 24 ] وقد يراد به المكتوب ، قال الشاعر : [ الطويل
]
102 - بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً
أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ
يُتْلَى كِتَابُهَا
ومثله [ الوافر ]
103 - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي
وفِيهاَ
كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وأصل هذه المادة الدّلالة على
الجَمْعِ ، ومنه كتيبة الجَيْش ، وكَتَبْتُ القربة ، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها
، وَالكُتَبة - بضم " الكاف " الخرزة ، والجمع كَتَب ، قال : [ البسيط ]
104 -
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا
مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا
الْكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدَّابة [ إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ
أَو سَيْرٍ ] قال الشاعر : [ البسيط ]
105 - لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا
حَلَلْتَ بِهِ
عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ
والكتابة عرفاً ضمّ
بعض حروف الهجاء إلى بعض .
قال ابن الخطيب : " واتفقوا على أنَّ المراد من
الكتاب القرآن ، قال تبارك وتعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ( [
ص : 29 ] .
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه :
أحدها : الفرض )
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( [ البقرة : 178 ] ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (
[ البقرة : 183 ] ، ) إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى لْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَّوْقُوتاً ( [ النساء : 103 ] .
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان : ( فَأْتُواْ
بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( [ الصافات : 157 ] أي : بِبُرْهانكم
وحجّتكم .
ثالثها : الأَجَل : ( وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا
كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( [ الحجر : 4 ] أي : أَجَل .
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد
عبده : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( [
النور : 33 ] وهذا المصدر " فِعَال " بمعنى " المُفَاعلة " كالجِدَال والخَصَام
والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة .

" "
صفحة رقم 264 " "
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن ، وله أسماء :
أحدها :
الكِتَاب كما تقدم .
وثانيها : القُرْآن : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً ( [
الزخرف : 3 ] ، ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( [ البقرة :
185 ] .
وثالثها : الفُرْقَان : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( [
الفرقان : 1 ] .
ورابعها : الذِّكْر ، والتَّذْكِرَة ، والذِّكْرَى : ( وَهَ
اذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( [ الأنبياء : 50 ] ، ) وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( [ الحاقة : 48 ] وقوله تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( [ الذاريات : 55 ] .
وخامسها : التَّنْزِيل
: ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [ الشعراء : 192 ] .
وسادسها :
الحديث : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( [ الزمر : 23 ] .
وسابعها :
المَوْعِظَة : ( قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ( [ يونس : 57 ]
.
وثامنها : الحُكْم ، والحِكْمَة ، والحَكِيم ، والمُحْكَم : ( وَكَذ الِكَ
أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ( [ الرعد : 37 ] ، ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( [
القمر : 5 ] ، ) يس اوَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( [ يس : 1 - 2 ] ، ) كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ( [ هود : 1 ] .
وتاسعها : الشِّفَاء : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ ( [ الإسراء : 82 ] .
وعاشرها : الهُدَى ،
والهَادِي ) هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( [ البقرة : 2 ] ، ) إِنَّ هَ اذَا الْقُرْآنَ
يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( [ الإسراء : 9 ] ، ) قُرْآناً عَجَباً يَهْدِى
إِلَى لرُّشْدِ ( [ الجن : 1 - 2 ] .
وذكروا له أسماء أُخَر منها :
"
الصِّرَاط المستقيم ، والعِصْمَة ، والرَّحْمَة ، والرُّوح ، والقَصَص ، والبَيَان
، والتِّبْيَان ، والمُبِين ، والبَصَائر ، والفَصْلُ ، والنُّجُوم ، والمَثَاني ،
والنّعْمَة ، والبُرْهَان ، والبَشِير ، والنَّذِير ، والقَيِّم ، والمُهَيْمِن ،
والنور ، والحق ، والعزيز ، والكريم ، والعظيم ، والمبارك " .
قوله تعالى : (
لاَ رَيْبَ فِيهِ ) .
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه .
قال بعضهم : هو
خبر بمعنى النّهي ، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : ( فَلاَ رَفَثَ وَلاَ
فُسُوقَ ( [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .
قرأ ابن كثير : " فِيهِ
" بالإشباع في الوَصْلِ ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم
يَلِهَا ساكن ، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء ،
وإنْ

" "
صفحة رقم 265 " "
كان غيرها يشبعها بالضم واواً ، ووافقه حفص في قوله : ( فِيهِ
مُهَاناً ( [ الفرقان : 69 ] فأشبعه .
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على
الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، و " لا " نافية للجنس محمولة في العمل على
نقيضها . " إنَّ " ، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان
ينصب به ، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف ، وهو " من " الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه
ظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
106 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا
بِسَيْفِهِ
فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وقيل : بني لتركُّبه
معها تركيب خمسةَ عَشَرَ ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب . وزعم الزَّجَّاج أن
حركة " لاَ رَجُلَ " ونَحْوِه حركة إعراب ، وإنما حذف التنوين تخفيفاً ، ويدل على
ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله : [ الوافر ]
107 - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ
خَيْراً
يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ
ولا دليل له لأن التقدير : إَلاَ
تَرَونَنِي رَجُلاً ؟
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به -
أُعْرِبَ نَصْباً نحو : طلا خيراً من زيد " ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة ، وأما
نحو قوله : [ الطويل ] 108 - تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ
مِثْلُهُ
بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ

" "
صفحة رقم 266 " "
وقول الآخر : [ الوافر ]
109 - أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ
أَبِي خُبَيْبٍ
نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ
وقول الآخر : [ الرجز
]
110 - لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام
: " لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ ، إذا هلك كِسْرَى ، فلا كسرى بَعْدَه " فمؤوَّل
.
و " رَيْبَ " اسمها ، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو " فيه " إلاّ أن
بني " تميم " لا تكاد تذكر خبرها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريب كائن ،
ويكون الوَقْفُ على " ريب " حينئذ تامَّا ، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها ، قالوا : "
لا عليك " أي : لا بأس عليك .
ومذهب سيبويه رحمه الله : أنها واسمها في مَحَلّ
رفع بالابتداء ، ولا عمل لها في الخبر .
ومذهب الأخفش : أن اسمها في مَحَلّ رفع
، وهي عاملة في الخبر .
ولها أحكامٌ كثيرة ، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب
النحو .

" "
صفحة رقم 267 " "
واعلم أن " لا " لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي ، وهي فيه على
قسمين :
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم ، وقسم تنفي فيه الوحدة ،
وتعمل حينئذ عمل " ليس " ، ولها قسم آخر ، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً
، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله : ( وَلاَ الضَّآلِّينَ ( [ الفاتحة : 7 ]
.
و " الرَّيْب " : الشّك مع تهمة ؛ قال في ذلك : [ الخفيف ]
111 - لَيْسَ
فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ
الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري : " قلق النفس واضطرابها " .
ومنه
الحديث : " دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك " . ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال :
" لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ " .
فليس قول من قال : " الرَّيب الشك مطلقاً "
بجيّد ، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم .
وقال بعضهم : في " الرّيب " ثلاثة
معانٍ :

" "
صفحة رقم 268 " "
أحدها : الشّك ؛ قال ابن الزِّبَعْرَى : [ الخفيف ]
112 -
لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وثانيها : التُّهْمَةُ ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ : [ الطويل ]
113 -
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي
فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ
مُرِيبُ
وثالثها : الحاجات ؛ قال : [ الوافر ]
114 - قَضَيْنَا مِنْ
تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن
الخطيب : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، كأنه ظن سوء ، تقول :
رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً .
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : "
ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي : حوادثه ، قال تعالى : ( نَّتَرَبَّصُ بِهِ
رَيْبَ الْمَنُونِ ( [ الطور : 30 ] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب
الغيظ ، كقول الشاعر : [ الوافر ]
115 - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ
رَيْبٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلنا : هذا يرجعان إلى معنى الشك
، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو
غير متيقن ، فقوله تعالى : ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ( المراد منه : نفي كونه مَظَنَّةً
للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته ،

" "
صفحة رقم 269 " "
ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً . ولو قلت
: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله
تعالى : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( [
البقرة : 23 ] .
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " وفي موضع
آخر : ( لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( [ الصافات : 47 ] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا
الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب .
ولو قلت : " لا فيه ريب " لأَوْهَمَ أن
هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا ، كما قصد في قوله تعالى ) لاَ فِيهَا
غَوْلٌ ( تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها
خمر الدنيا . فإن قيل : من أين يدلّ قوله : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " على نفي الريب
بالكلية ؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن
قوله : " لا ريب " نفي لماهيّة الريب ؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد
الماهية ؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مُنَاقض نفي
الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : " لا إله إلا الله " نفياً لجميع الآلهة سوى
الله تعالى .
وقرأ أبو الشعثاء : " لاَ رَيْبُ فِيهِ " بالرفع ، وهو نقيض لقولنا
: " ريب فيه " ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ،
فيتحقق التناقض .
والوقف على " فيه " هو المشهور .
وعن نافع وعاصم أنهما
وَقَفَا على " ريب " ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : ( لاَ
ضَيْرَ ( [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : " لا بأس " .
واعلم أن الملحدة طعنوا
فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ
فيه عنده فلا فائدة فيه . الجواب : [ المراد ] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي
لمرتاب أن يرتاب

" "
صفحة رقم 270 " "
فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى
النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه
الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
وقيل : في الجواب
وجوه أخر :
أحدها : أن النفي كونه متعلقاً للريب ، المعنى : أنه منعه من الدلالة
، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه ، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب ؛ لأنه
لم ينظر فيه حَقّ النظر ، فريبه غير معتدّ به .
والثاني : أنه مخصوص ، والمعنى :
لا ريب فيه عند المؤمنين .
والثالث : أنه خبر معناه النهي . والأول أحسن
.
قوله تعالى : ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) . يجوز فيه عدة أوجه :
أحدها : أن
يكون مبتدأ ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا : إن خبر " لا " محذوف .
وإن قلنا
: " فيه " خبرها ، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر " لا " ، تقديره : لا ريب
فيه ، فيه هدى ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو هدى ، وأن يكون خبراً ثانياً
ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " صفةً أو بدلاً ، أو بياناً ، و " لا ريب " خبر
أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " خبراً أول ، و "
لا ريب " ، خبراً ثانياً ، وأن يكون منصوباً على الحل من " ذلك " ، أو من " الكتاب
" ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في "
فيه " ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ ، وجعله حالاًَ مما تقدم
: إما على المُبَالغة ، كأنه نفس الهُدَى ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا هُدَى ، أو
على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً ، أو صفة ، أو حالاً
فيه الأقوال الثلاثة ، أرجحها الأول .
وأجازوا أن يكون " فيه " صفةً ل " ريب " ،
فيتعلّق بمحذوف ، وأن يكون متعلقاً ب " ريب " ، وفيه إشكال ؛ لأنه يصير مطولاً ،
واسم " لا " إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه "
ريب " لا لنفس " ريب " .
وقد تقدّم معنى الهدى " عند قوله تبارك وتعالى : (
اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( [ الفاتحة : 6 ] .
و " هُدّى " مصدر على
وزن " فُعَل " فقالوا : ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا " سُرّى " و "
بُكّى " و " هُدّى " ، وجاء غيرها ، وهو " لَقِيتُهُ لُقًى " ؛ قال الشَّاعر : [
الطويل ]
116 - وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ
بحَمْدِ
الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا

" "
صفحة رقم 271 " "
و " الهدى " فيه لغتان : التذكير ، ولم يذكر اللّحْياني غيره
.
وقال الفراء : بعض بني أسد يؤنثه ، فيقولون : هذه هدى .
و " في " معناها
الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : " زيد في الدار " ، ) وَلَكُمْ فِى لْقِصَاصِ
حَيَاةٌ ( [ البقرة : 179 ] ولها معان آخر :
المصاحبة : نحو : ( ادْخُلُواْ فِى
أُمَمٍ ( [ الأعراف : 38 ] .
والتعليل : " إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ "
وموافقة " على " : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ( [ طه : 71 ] [ أي
: على جذوع ] ، والباء : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ( [ الشورى : 11 ] أي بسببه
.
والمقايسة نحو قوله تعالى : ( فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى
لآخِرَةِ ( [ التوبة : 38 ] .
و " الهاء " في " فيه " أصلها الضم كما تقدم من أن
" هاء " الكناية أصلها الضم ، فإن تقدمها ياء ساكنة ، أو كسرة كسرها غري الحجازيين
، وقد قرأ حمزة : " لأَهْلِهُ امْكُثُوا " وحفص في : " عَاهَدَ عَلَيهُ الله " [
الفتح : 10 ] ، ) وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ( [ الكهف : 63 ] بلغه أهل الحِجَاز ،
والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو : " فيه " و " منه " -
الاختلاس ، ويجوز الإشْبَاع ، وبه قرأ ابن كثير ، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ،
وقد تختلس وتسكن ، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى .
و "
للمتقين " جارّ ومجرور متعلّق ب " هدى " .
وقيل : صفة ل " هدى " ، فيتعلّق
بمحذوف ، ومحله حينئذ : إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه ، أي هدى كائن
أو كائناً للمتقين .
والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة
مستقلّة بنفسها ، ف

" "
صفحة رقم 272 " "
" الم " جملة إن قيل : إنها خبر مبتدأ مضمر ، و " ذلك الكتاب
" جملة ، و " لا ريب " جملة ، و " فيه هدى " جملة ، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل ؛
لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف
.
قال الزمخشري : " وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا
من غير حرف نسق . [ وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق ] بعض ، والثانية متحدة
بالأولى ، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة .
بيانه : أنه نبّه أولاً على أنه
الكلام المتحدي به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال ، فكان
تقريراً لجهة التحدي . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله
.
ثم أخبر عنه بأنه " هدى للمتقين " ، فقرر بذلك كونه يقيناً ، لا يحوم الشّك
حوله ، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [ من ]
نُكْتَةٍ ذات جَزَالة : ففي الأولى الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه .
وفي
الثانية ما في التعريف من الفَخَامة . وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف
.
وفي الثالثة ما في تقديم " الريب " على الظرف .
وفي الرابعة الحذف ، ووضع
المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكراً .
" المتقين
" جمع " مُتَّقٍ " ، وأصله : مُتَّقِيينَ بياءينِ ، الأولى : لام الكلمة ، والثانية
علامة الجمع ، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة ، وهي الياء الأولى فحذفت ، فالتقى
ساكنان ، فَحذف إحداهما وهي الأولى .
و " متقٍ " من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل
الوِقَايَةِ ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين ، ووقعت بعدهما "
تاء " الافتعال أن يبدلا " تاء " نحو : " اتَّعَدض " من الوَعْدِ ، و " اتَّسَرَ "
من اليُسْرِ . وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ ، قالوا : " اتَّزَرَ " و " اتَّكَلَ " من
الإِزَارِ ، والأَكْلِ .
و ل " افتعل " اثنا عشر معنى :
الاتِّخَاذ نحو : "
اتقى " .
والتسبب نحو : " اعمل " .
وفعل الفاعل بنفسه نحو : " اضطرب "
.
والتخير نحو : " انتخب " .

" "
صفحة رقم 273 " "
والخطف نحو : " استلب " .
ومطاوعة " أَفْعَلَ " نحو : "
انتصف " .
ومطاوعة " فَعَّلَ " نحو " عمّمته فاعتمّ .
وموافقة " تَفَاعَلَ "
و " تَفَعَّلَ " و " اسْتَفْعَلَ " نحو : احتور واقتسم واعتصم ، بمعنى تحاور
وتقَسَّم واستعصم .
وموافقة المجرد ، نحو " اقتدر " بمعنى : قَدَرَ
.
والإغناء عنه نحو : " اسْتَلَم الحجر " ، لم يُلْفَظْ له بمجرد .
و "
الوقاية " : فرط الصيانة ، وشدة الاحتراس من المكروه ، ومنه " فرس وَاقٍ " : إذا
كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه .
وقيل : هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام
.
وفي الحديث : " التَّقِيُّ مُلْجَمٌ " .
ومن الصيانة قوله : [ الكامل
]
117 - سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ
فَتَنَاوَلَتْهُ
وَاتَّقَتَا بِاليَدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
118 - فَاَلْقَتْ قِنَاعً
دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ
بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ
قال
أبو العباس المقرىء : ورد لفظ " الهدى " في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى :
الأول
: بمعنى " البَيَان " قال تعالى : ( أؤلئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ( [ البقرة
: 5 ] أي : على بيان ، ومثله ، ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (
[ الشورى : 52 ] أي : لتبين ، وقوله تبارك وتعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ ( [ فصلت : 17 ] أي : بَيَّنَّا لهم .
الثاني : الهُدَى : دين
الإسلام ، قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى للَّهِ ( [ آل عمران : 73 ] أي
: دين الحق هو دين الله .
وقوله : ( إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى ( [ الحج : 67 ] أي :
دين الحق .
الثالث : بمعنى " المَعْرِفَة " قال تعالى : ( وَبِ النَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ ( [ النحل : 16 ] أي : يعرفون ، وقوله تعالى : ( نَكِّرُواْ لَهَا
عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ( [
النمل : 41 ] أي : أتعرف .

" "
صفحة رقم 274 " "
الرابع : بمعنى " الرسول " قال تعالى : ( فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ( [ البقرة : 38 ] أي : رسول . الخامس : بمعنى "
الرشاد " قال تعالى : ( وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ ( [ ص : 22 ] أي
أرشدنا .
وقوله : ( عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ ( [ القصص
: 22 ] .
وقوله تعالى : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ ( [ الفاتحة : 6 ] .
السادس :
بمعنى : " القرآن " قال تعالى : ( وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ( [
النجم : 23 ] أي : القرآن .
السابع : بمعنى : بعثة النبي - ( صلى الله عليه وسلم
) - قال تبارك وتعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ( [ الشورى : 52 ] .
الثامن :
بمعنى " شرح الصدور " قال تعالى : ( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ( [ الأنعام : 125 ] .
التاسع : التوراة ، قال تبارك
وتعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى لْهُدَى ( [ غافر : 53 ] يعني : التوراة
.
العاشر : " الجنة " قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ( [ يونس : 9 ] أي : يدخلهم الجنة .
الحادي
عشر : " حج البيت " قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ( [ آل عمران : 96 ] أي الحج
.
الثاني عشر : " التوبة " قال تعالى : ( وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ ( [ يوسف : 52 ] أي : لا يصلح .
الثالث عشر : " التوبة " قال
تعالى : ( إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ( [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا
.
فصل في المقصود بالهدى
قال ابن الخطيب " رضي الله تعالى عنه " : الهُدَى
عبارة عن الدلالة .
وقال صاحب " الكشاف " : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية
.
وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه
الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم
الاهتداء ؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال ، وقد
ثبت

" "
صفحة رقم 275 " "
الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى : ( وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَ اسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى لْهُدَى ( [ فصلت : 17 ]
أثبت الهدى مع عدم الاهتداء . واحتج صاحب " الكشَّاف " بأمور ثلاثة :
[ أوّلها ]
: وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى ، قال تعالى : ( أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرُواْ
الضَّلاَلَةَ بِ الْهُدَى ( [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : ( قُلِ اللَّهُ
وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( [ سبأ : 24 ]
.
وثانيها : يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى
كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً ؛ لاحتمال أنه هدي
، فلم يَهْتَدِ .
وثالثها : أن " اهتدى " مطاوع " هَدَى " يقال : هَدَيْتُه
فَاهْتَدَى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، فكنا أن الانكسار
والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم " الهدى "
.
والجواب عن الأوَّلِ : أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل
" الهدى " هو " الإضلال " ومقابل " الاهتداء " هو " الضلال " فجعل " الهدى " في
مقابلة " الضلال " ممتنع . وعن الثاني : المنتفع بالهدى سمي مهدياً ؛ لأن الوسيلة
إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم .
وعن الثالث : أن الائتمار
مُطَاع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول
الائتمار ، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض
بقوله : هديته فلم يهتد . ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن
الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى ، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدلّ على أن
الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wisdom.ahlamontada.com
ebrehim
Admin
ebrehim


عدد المساهمات : 459
تاريخ التسجيل : 06/06/2012
العمر : 52

سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة   سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أغسطس 19, 2012 8:25 pm

فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى ،
والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي
الشّرْك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين
.

" "
صفحة رقم 276 " "
وفي الحديث : " كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) " .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن
المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب ،
وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار : " حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً
ذا شَوْكٍ ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك
التَّقوى " . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما
افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقوَى
ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله - تعالى - ذكرَ
المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين
، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل
اجتناب الصَغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد
.
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في
أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟
فروي عنه - عليه الصلاة والسلام
- أنه قال : " لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به
حَذَراً مما به بَأسُ " . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين
يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته
بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها
إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ؛ كقوله تعالى : (
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ( [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد ) أؤلئك
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( [ الحجرات : 3 ] ، ) قَوْمَ
فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( [ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة
كقوله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ ( [
الأعراف : 96 ] ، ) وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ اتَّقُونِ ( [ المؤمنون : 52 ]
.

" "
صفحة رقم 277 " "
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : ( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة
الإخلاص كقوله : ( فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى لْقُلُوبِ ( [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص
القلوب .
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف
بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي ؟
والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين ؟
والجواب : أن القرآن
كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً
دلالة للكافرين ؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين
اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( [
النازعات : 45 ] وقال : ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ( [ يس : 11 ]
.
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن
هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى
المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه ؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في
حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه
كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في
الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن
عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو
وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه ، ولأنا نرى
جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ،
وبعضها صريح في القدر ؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون
هدى ؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على
التعيين - وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى .
السؤال
الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا
استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته ، وفي
معرفة

" "
صفحة رقم 278 " "
النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم
يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق ؟
الجواب : ليس من شرط
كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك
بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه
الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي

" "
صفحة رقم 279 " "
العموم ، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد
في اللَّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات
النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي
بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما
ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله : (
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ( [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك
لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ قلنا :
من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على
الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال
.
( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (
" الذين " يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر
، وهو من ثلاثة أوجه :

" "
صفحة رقم 280 " "
أظهرها : أنه نعت ل " المتقين " .
والثاني : بدل
.
والثالث : عطف بيان .
وأما الرفع فمن وجهين :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ
محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان :
أحدهما : " أولئك " الأولى .
والثاني : " أولئك " الثانية ، والواو زائدة ،
وهذان القولان منكران ؛ لأنه قوله : " والذين يؤمنون " يمنع كونه " أولئك " الأولى
خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
والنصب على القطع .
و
" يؤمنون " صلة وعائد .
قال الزمخشري : " فإذا كان موصولاً كان الوقف على "
المتقين " حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً " .
وهو مضارع
علامة رفعه " النون " ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع
اتصل به " ألف " اثنين ، أو " واو " جمع ، أو " ياء " مخاطبة ، نحو : " يؤمنان -
تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين " .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون
توكيد أو إناث ، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب
.
وهو مضارع " أمن " بمعنى : صدق ، و " آمن " مأخوذ من " أمن " الثلاثي ،
فالهمزة في " أمن " للصّيرورة نحو : " أعشب المكان " أي : صار ذا عُشْب .
أو
لمطاوعة فعل نحو : " كبه فأكب " ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد
يتعدّى باللام كقوله تعالى : ( وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( [ يوسف : 17 ] ، )
فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى ( يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية
بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل " يؤمنون " : " يؤأمنون " بهمزتين
:
الأولى : همزة " أفْعَل " .
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الولى ؛ لأن همزة "
أفْعَل " تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : طأكرم " و " يكرم "
و " أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم " .
وإنما حذفت ؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان
، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو : " أنا أكرم " ، الأصل : أأكرم بهمزتين ،
الولى : للمضارعة والثانية : همزة أفعل ، فحذفت الثانية ؛ لأن بها حصل الثّقل ؛
ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب
.

" "
صفحة رقم 281 " "
ولا يجوز ثبوت همزة " أفعل " في شيء من ذلك إلا في ضرورة ؛
كقوله : [ الرجز ]
119 - فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا
وهمزة " يؤمنون
" - وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفاً متجانساً نحو
: " راس " و " بير " و " يومن " ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو
: " إيمان " و " آمن " .
فصل
قال بعضهم : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ
الْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( يحتمل أن
يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً
للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : " الذين يؤمنون " .
وإما
أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصَّلاة والصدقة ؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ،
وأصلها الصَّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام
: " الصَّلاَة عِمَاد الدِّين ، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام " أما التَّرْك فهو
داخل في الصَّلاة ، لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ
وَالْمُنْكَرِ ( [ العنكبوت : 45 ] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على
أربع فرق :
الفرقة الاولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ،
والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث .
أما الخوارج
فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلاً
عقلياً ، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به
من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو
الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ،

" "
صفحة رقم 282 " "
أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء ،
فالمراد به التصديق ؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ،
فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام
وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة .
أما إذا ذكر
مطلقاً غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي - الذي هو
التصديق - إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أن الإيمان عبارةٌ
عن فعل كل الطَّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ،
أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ ، وأبي الهذيل ، والقاضي عبد الجبار بن
أحمد .
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل ، وهو قول أبي علي
وأبي هاشم .

" "
صفحة رقم 283 " "
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [ اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد
. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ] .
فالمؤمن عند الله كل من
اجتنب ] كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول
النّظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر
كلها .
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو
الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها
إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار
القلب كفر ، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات
إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد
الجثحُود والإنكار ؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد
بن كلاب .
والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ،
وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد
انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه .
ومنهم من قال : الإيمان اسم
للفرائض دون النوافل .
الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللِّسان والقَلْب
نعاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :
الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة
بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين
:

" "
صفحة رقم 284 " "
أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فَسَّرها
بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو كان علماً صادراً عن الدليل -
وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم .
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من
الاستدلال .
وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ
بماذا ؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ،
ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير
من عداها من الطوائف .
وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة
كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً
بالعلم ، أو عالماً بذاته ، وبكونه مرئياً أو غير مرئي ، لا يكون داخلاً في مسمى
الإيمان .
القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول
بشر بن غياث المَرِيسِي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم
القائم بالنفس .
الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ،
وهؤلاء اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ ، حتى إن
من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان
، وهو قول جهم بن صَفْوَان .

" "
صفحة رقم 285 " "
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير
داخلةٍ في حَدّ الإيمان .
وحكى الكعبي عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة
كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد .
ثانيهما : أنّ الإيمان مُجَرَّد
التصديق بالقَلب ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي .
الفرقة الرابعة الذين
قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :
الأول : أن الإقرار
باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة
شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان ، وهو قول
غيلان بن مسلم الدّمشقي ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل " غيلان
" . الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن
المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم
الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع .
و
" بالغيب " متعلّق ب " يؤمنون " ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل ، أو اسم
المفعول ، وفي هذا الثاني نظر ؛ لأنه من " غاب " وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم
مفعول من " فَعَّلَ " مضعفاً متعدياً ، أي : المُغَيَّب ، وفيه بعد . وقال الزمخشري
: يجوز أن يكون مخففاً من " فَيْعِل " نحو : " هَيِّن " من " هَيْن " ، و " مَيِّت
" من " مَيْت " . وفيه نظر ؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً
كنظائره ، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا
خاصّة . ويجوز أن تكون " الباء " للحال فيتعلّق بمحذوف أي :
يؤمنون

" "
صفحة رقم 286 " "
متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و " الغيب " حينئذ مصدر على
بابه .
فصل في معنى " يؤمنون بالغيب "
في قوله " يؤمنون بالغيب " قولان
:
الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : " يؤمنون بالغيب " صفة المؤمنين
معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين
الذين " إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، آمَنَّ : وَإذَا خَلوا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ " .
نظيره قوله : ( ذ الِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِ الْغَيْبِ ( [ يوسف : 52 ] ، وذلك مدح للمؤمنين
بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين .
الثاني : وهو قول جمهور
المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى
ما هو عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل .
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين
بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا
يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم
بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً
لاستحقاق الثَّنَاء العظيم .
واحتج أبو مسلم بأمور :
الأول : أن قوله : ( و
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِ
الآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( [ البقرة : 4 ] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان
المراد من قوله : " الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ " هو الإيمان بالأشياء الغائبة
لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز .
الثاني : لو حملناه على الإيمان
بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : (
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ( [ الأنعام : 59 ]
وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب . أما على قولنا فلا
يلزم هذا المحذور . الثالث : لفظ " الغيب " إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور
، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته ، فقوله : "
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه
الإيمان بذت الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غَيْرُ جائز ؛ لأن
الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي
خروج الأصل ؟

" "
صفحة رقم 287 " "
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور .
والجواب عن الأول :
أن قوله : " يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله
بعد ذلك : " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " يتناول الإيمان
ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : (
وَمَلا ائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( [ البقرة : 98 ] .
وعن الثاني : لا
نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين
جميعاً .
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا ؟
قلنا : قد بينا أن
الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه .
أما الذي عليه دليل فلا
يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء :
الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة .
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ
الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور ، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين
يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته
، والله أعلم .
واختلفوا في المراد ب " الغيب " .
قال ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما : " الغيب - ها هنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل :
الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان " .
وقيل : الغيب
هاهنا هو الله تعالى .
وقيل : القرآن .
وقال الحسن : الآخرة .
وقال زرُّ
بن حبيش ، وابن جريج : بالوحي .

" "
صفحة رقم 288 " "
ونظيره : ( أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ( [ النجم : 35 ] قال
ابن كيسان : بالقدر .
وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ
، فذكرنا أصحاب رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وما سبقوا به ، فقال عبد الله
: إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من
إيمان الكتب ، ثم قرأ : " الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " إلى قوله "
المفلحون " .
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدي المنتظر .
قال ابن
الخطيب : " وتخصص المطلق من غير دليل باطل " .
قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو وورش :
" يُؤمِنُونَ " ، بترك الهمزة .
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في )
أَنبِئْهُمْ ( [ البقرة : 33 ] ، و ) يُنَبِّئُهُمُ ( [ المائدة : 14 ] ، و )
نَبِّئْنَا ( [ يوسف : 36 ] .
ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامةً للجزم
نحو : ( وَنَبِّئْهُمْ ( [ الحجر : 51 ] ، " وأَنبئْهُمْ " ، و ) تَسُؤْهُمْ ( [ آل
عمران : 120 ] ، و ) إِن نَّشَأْ ( [ الشعراء : 4 ] ونحوها ، أو يكون خروجاً من
لُغَةٍ إلى أخرى نحو : ( مُّؤْصَدَةُ ( [ البلد : 20 ] ، و ) وَرِءْياً ( [ مريم :
74 ] .
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت " فاء " الفعل ، إلا ) وَتُؤْوِى ( [
الأحزاب : 51 ] و ) تُؤْوِيهِ ( [ المعارج : 13 ] ، ولا يترك من عين الفعل إلا )
الرُّؤيَا ( [ الإسراء : 60 ] وبابه ، أو ما كان على وزن " فعل " . و " يقيمون "
عطف على " يؤمنون " فهو صلةٌ وعائد .
وأصله : يؤقومون حذفت همزة " أفعل " ؛
لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ،
ففعل فيه ما فعل في " مستقيم " ، وقد تقدم في الفاتحة . ومعنى " يقيمون " : يديمون
، أو يظهرون ، قال تعالى : ( عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ( [ المعارج : 23 ] وقال
الشاعر : [ الوافر ]
120 - أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ
البطْ
طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا
وقال آخر : [ الكامل
]

" "
صفحة رقم 289 " "
21 - وَإِذَا يُقَالُ : أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا
حَتَّى
تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ
من قامت السّوق : إذا أنفقت ؛ لأنها إذا حوفظ
عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء
الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع
خَلَل في فرائضها وسُننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق .
وفي
ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن
التجرُّد لأدائها ، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور ، أو يكون عبارةً عن أدائها ،
وإنما عبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت .
وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : ( فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِ
الْحَقِّ ( [ البقرة : 213 ] يعني : الكتب .
و " الصّلاة " مفعول به ، ووزنها :
" فَعضلَة " ، ولامها واو ، لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها
فقلبت ألفاً ، واشتقاقها من : " الصَّلَوَيْنِ " وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ
مفترقان من " الصّلاَ " ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان
عند عَجَبِ الذَّنْبِ ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ ، ومنه " المُصَلِّي " في
حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند " صَلَوَي " السابق . ذكره الزَّمخشري
.
قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة ؛ وذلك لأن
لفظ " الصلاة " من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين ،
واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل ، ولو
جوزنا أن [ يقال ] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار
بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما
قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني
في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر ، وكان مراد
الله - تعالى - تلك المعان ] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا ، واندرست كما
وقع مثله في هذه اللَّفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق
الذي ذكره مردود باطل . وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام
- بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شَكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج
إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور .
وأما ما ذكره من
احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا
.

" "
صفحة رقم 290 " "
و " الصَّلاة " لغة : الدّعاءُ : [ ومنه قول الشاعر ] [
البسيط ]
122 - تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً
يَا رَبِّ
جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ
فَاغْتَمِضِي
يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً
أي : مثل الَّذي
دعوت ، ومثله : [ الطويل ]
123 - لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ
بَيْتَهَا
وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
وفي الشرع : هذه
العبادة المعروفة .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : " صَلِيَ بِالنَّارِ "
أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : ( تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ( [ الغاشية : 4 ] قال
: [ الخفيف ]
124 - لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ
هُ وإِنِّي
بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار ، أي :
قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء - وهو حَرّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ ، وإن كَسَرْتَ
مَدَدْتَ ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه ؛ قال : [ الوافر ]
125 - فَلاَ تَعْجَلْ
بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ
فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ
ذكر ذلك
الخَارزنجِيّ ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن " الصلاة " من ذوات الواو ، وهذا من
الياء . وقيل في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
لنَّبِيِّ ( [ الأحزاب : 56 ] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة
الاسْتِغْفَار ، ومن المؤمنين الدعاء .
) وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ( مما : جاء
ومَجْرور متعلّق ب " ينفقون " و " ينفقون " معطوف على الصّلة قبله ، و " ما "
المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون اسماً بمعنى " الذي " ، و "
رزقناهم " صِلَتِهَا ، والعائد محذوف .
قال أبو البقاء : " تقديره رزقناهموه ،
أو رزقناهم إياه " .

" "
صفحة رقم 291 " "
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال ؛ لأن تقديره متصلاً
يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلاً
يمنع حذفه ؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه ، نصُّوا عليه ، وعللوا بأنه
لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض .
ويمكن أن يجاب عن
الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله ؛
ويكون كقوله : [ الطويل ]
126 - فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ
لِضَغْمَةٍ
لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا
وأيضاً فإنه لا يلزم
من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي .
وعن الثَّاني :
بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها
موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً .
الثَّالث : أن تكون مصدريةً ، ويكون المصدر
واقعاً موقع المفعول أي : مرزوقاً . وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال : " لأنَّ
الفعل لا يتفق " ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول . والرزق لغة :
العَطَاء ، وهو مصدر ؛ قال تعالى : ( وَمَن رَّزَقْنَ اهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً (
[ النحل : 75 ] وقال الشَّاعر : [ البسيط ]
127 - رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ
تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ
إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وقيل :
يجوز أن يكون " فِعْلاً " بمعنى " مفعول " نحو : " ذِبْح " ، و " رِعْي " بمعنى : "
مَذْبوح " ، و " مَرْعيّ " .
وقيل : " الرِّزْق " - بالفتح - مصدر ، وبالكسر اسم
، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ ( [ الواقعة : 82 ] .
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى
الولد والعَبْد .
وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره .
ثم قال
بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق
مما رزقنا فقال : ( وَأَنفِقُواْ مِن مَّا ( [ المنافقون : 10 ] ، فلو كان الرزق هو
الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه .

" "
صفحة رقم 292 " "
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً ؛ لأن الإنسان
قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا
الزَّوجة ، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به ، والعقل لي بمملوك ، وأيضاً
البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك . وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه ،
فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء ،
والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به .
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ،
فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا
مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ .
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا
الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً . وقال أصحابنا : الحرام قد
يكون رزقاً .
قال ابن الخطيب : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق
في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار
حظَّا ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له .
الثَّاني : أنه تعالى قال : ( وَمَا
مِن دَآبَّةٍ فِى لأَرْضِ إِلاَّ عَلَى للَّهِ رِزْقُهَا ( [ هود : 6 ] ، وقد يعيش
الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من
رزق شيئاً .
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب ، والسُّنة ، والمعنى :
أما
الكتاب فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( [
البقرة : 3 ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن
يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .
ثانياً : لو كان
الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : ( مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ (
[ المنافقون : 10 ] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه
] ، بل يجب رَدّه ، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً . ثالثها : قوله تَعَالى :
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ
مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ( [ يونس : 59 ] فبين أن
من حرم رزق الله ، فهو مُفْتَرٍ على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً .
وأما
السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب " الفرائض " بإسناده عن صفوان بن
أمية

" "
صفحة رقم 293 " "
قال : " كنا عند رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - إذْ
جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة ، فلا
أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي ، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ . فقال
عليه الصّلاة والسلام : " لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ
الله لقد رزقك الله [ رزقاً ] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على
ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً
ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً " . وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من
الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به
لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد
منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا
أمر بمنعهم منه .
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله ،
فإنه لا يُضَاف إليه ذلك ؛ لما فيه من سُوءِ الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات
والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكِلاَب والخَنَازير ، وقال : ( يَشْرَبُ
بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( [ الإنسان : 6 ] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان
الكُفَّار أيضاً من العباد ، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ،
وإن كان الحرام رزقاً أيضاً .
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا ؛ لأن
قوله عليه الصلاة والسلام : " فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه " صريح
في أن الرزق قد يكون حراماً .
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة ،
وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله
أعلم .
و " نفقط الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ
على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ "
نفذ " " نَفَشَ " " نَفَحَ " " نفخ " " نفض " " نفل " .

" "
صفحة رقم 294 " "
و " نفق " الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة : ماتت
نُفُوقاً ، والنفقة : اسم المُنْفَق .
فصل في معاني " من "
و " من " هنا
لابتداء الغاية .
وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أخر :
بيان الجنس : ( فَ
اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ( [ الحج : 30 ] .
والتعليل : (
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ ( [ البقرة : 19 ]
.
والبدل : ( بِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ( [ التوبة : 38 ]
.
والمُجَاوزة : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ( [ آل عمران : 121 ]
.
وانتهاء الغاية : " قربت منه " .
والاستعلاء ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ
الْقَوْمِ ( [ الأنبياء : 77 ] .
والفصل : ( يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ ( [ البقرة : 220 ] .
وموافقة " الباء " ) يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ
خَفِيٍّ ( [ الشورى : 45 ] ، ) مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ ( [ فاطر : 40 ]
.
والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب . واشترط
الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئاً . و " الهمزة " في " أنفق "
للتَّعدية ، وحذفت من " ينفقون " لما تقدم في " يؤمنون " .
فصل في قوله تعالى "
ومما رزقناهم ينفقون "
قال ابن الخَطِيبْ : في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ ( فوائد :
إحداها : أدخل " من " للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف
والتَّبذير المنهي عنه .
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ ، كأنه
قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في
الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :
أحدها :
الزكاة وهي قوله تعالى : ( يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا
( [ التوبة : 34 ] .
وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته
.
وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله
تعالى : ( وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ
أَحَدَكُمُ ( [ المنافقون : 10 ] ، وأراد به الصدقة ؛ لقوله بعد : (
فَأَصَّدَّقَ

" "
صفحة رقم 295 " "
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ( [ المنافقون : 10 ] فكل هذه
داخلةٌ تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح .
( والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ (
" والَّذِين " عطف على " الذين " قبلها ، ثم لك اعتباران
:
أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [ المتقارب ]
128
- إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي
الْمُزْدَحَمْ وقوله : [ السريع ]
129 - يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ
الصْ
صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ
يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن
قيل : إن المراد بها واحد .
والثاني : أن يكونوا غيرهم .
وعلى كلا القولين ،
فيحكم على موضعه بما حكم على موضع " الَّذِين " المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً
وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله .
ويجوز أن يكون عطفاً على " المتقين " ،
وأن يكون مبتدأ خبره " أولئك " ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير " الذين " الأولى . و
" يؤمنون " صلة وعائد .
و " بما أنزل " متعلّق به و " ما " موصولة اسمية ، و "
أنزل " صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل ،
ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا
عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل .

" "
صفحة رقم 296 " "
و " إليك " متعلّق ب " أنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاء الغاية
، ولها معان أخر :
المُصَاحبة : ( وَلاَ تَأْكُلُو ا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ ( [ النساء : 2 ] .
والتبيين : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
( [ يوسف : 33 ] .
وموافقة اللام و " في " و " من " : ( وَالأَمْرُ إِلَيْكِ ( [
النمل : 33 ] أي : لك .
وقال النابغة : [ الطويل ]
130 - فَلاَ تَتْرُكَنِّي
بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي
إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال
الآخر : [ الطويل ]
131 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي : لا يروى منّي ، وقد
تزاد ؛ قرىء : " تَهْوَى إليهم " [ إبراهيم : 37 ] بفتح الواو .
و " الكاف " في
محل جر ، وهي ضمير المُخَاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً
وتأنيثاً ك " تاء " المُخَاطب .
ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون ، وأبو
عمرو ، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها .
و " النزول "
الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ ، قال تعالى : ( فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ
( [ الصافات : 177 ] أي حلّ ووصل .
قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي ،
وكون القرآن منزلاً ، ومنزولاً به -

" "
صفحة رقم 297 " "
أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول
به ، كما يقال : نزلت

" "
صفحة رقم 298 " "
رسالة الأمير من القَصْر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع
يسمع الرسالة من عُلوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته ، ولكن
السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به
في موضع آخر .
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف
والأصوات عندكم ؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه ، ثم أقدره
على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في
اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه ،
ويجوز أن يخلق الله

" "
صفحة رقم 299 " "
أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه
جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك
الكلام القديم .
فصل في معنى فلان آمن بكذا
قال ابن الخطيب : لا نزاع بين
أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب " الباء " فالمراد منه التصديق
.
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه
صام وصلى ، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق ، لكن لا بُدّ معه من المعرفة ؛ لأن
الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً ، فهو
إلى الذَّم أقرب .
و " ما " الثانية وَصِلَتُهَا عطف " ما " الأولى قبلها ،
والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على " ما " التي قبلها ، فتأمله .
واعلم
أن قوله : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه
الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو
لم يكن مؤمناً بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : ( و الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ( [ البقرة : 4 ]
يعني : التوراة والإنجيل ؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله : (
وَمَلا ائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( [ البقرة : 98 ] ، ثم في
تخصيص عبد الله بن سلام ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين ، فهذا
هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام .
و " من قبلك " متعلّق ب " أنزل " ، و
" من " لابتداء الغاية ، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض " بعد " ،
وكلاهما متى نُكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً ، وأريدت معنى بني
على الضم ، فمن الإعراب قوله : [ الوافر ]
132 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ
وَكُنْتُ قَبْلاً
أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ
الْقَرَاحِ

" "
صفحة رقم 300 " "
وقال الآخر : [ الطويل ]
133 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ
أُسْدَ خَفِيَّةٍ
فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء
قوله تعالى : ( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( [ الروم : 4 ] وزعم
بعضهم أن " قبل " في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً .
فإذا قلت : " قمت قبل
زيد " فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل
زيد ] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله .
واعلم أن حكم " فوق وتحت وعلى وأول " حكم
" قبل وبعد " فيما تقدّم .
وقرىء : " بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ " مينياً للفاعل ،
وهو الله - تعالى - أو جبريل ، وقرىء أيضاً : " بِمَا أُنْزِلّ إلَيْكَ " بتشديد
اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله : [ الرمل ]
134
- إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ
بتسكين " خُلط " ثم حذف
همزة " إليك " ، فالتقى مِثْلاَن ، فأدغم لامه .
و " بالأخرة " متعلّق ب "
يوقنون " ، و " يوقنون
" خبر عن " هم " ، وقدّم المجرور ؛ للاهتمام به كما قدم
المنفق في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( [ البقرة : 3 ] لذلك ،
وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة
هنا من مبتدأ وخبر لخلاف : " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ؛ لأن وصفهم
بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة
الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : " ومما رزقناكم هم ينفقون " .
والمراد
من الآخرة : الدَّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا
.

" "
صفحة رقم 301 " "
والآخرة تأنيث آخر مقابل ل " أول " ، وهي صفة في الأصل جرت
مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، والنشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين
الموصوفين ، قال تعالى : ( وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ ( [ الأنعام : 32 ] وقال :
( ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ( [ العنكبوت : 20 ] .
و "
يوقنون " من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن " أفعل " [ يأتي ] بمعنى : "
استفعل " أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم .
وقيل : اليقين هو
العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wisdom.ahlamontada.com
ebrehim
Admin
ebrehim


عدد المساهمات : 459
تاريخ التسجيل : 06/06/2012
العمر : 52

سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة البقرة   سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أغسطس 19, 2012 8:26 pm

" "
صفحة رقم 303 " "
لغات كثيرة ، وكتبوا " أولئكَ " بزيادة " واو " قبل " اللام "
.
قيل : للفرق بينها وبين " إليك " .
و " الهدى " الرشد والبيان والبَصِيرة
.
و " مِنْ رَبِّهِمْ " في محل جر صفة ل " هدى " و " مِنْ " لابتداء الغاية ،
ونكر " هدى " ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله : [ الطويل ]
137 - فَلاَ وَأَبِي
الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى
عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى
لَحْمِ
وروي " من ربهم " بغير غُنّة ، وهو المشهور ، وبغّنَة ، ويروى على أبي
عمرو ، و " أولئك " مبتدأ ، و " هم " مبتدأ ثانٍ ، و " المفلحون " خبره ، والجملة
خبر الأول ، ويجوز أن يكون " هم " فصلاً أو بدلاً ، و " المفلحون " الخبر
.
وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلاً ، ويفيد - أيضاً -
التوكيد .
قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :
إحداهما : الدلالة على أن "
الوارد " بعده خبر لا صفة .
والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت
لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان .
وقد تقدم أنه
يجوز أن يكون " أولئك " الأولى ، أو الثاّنية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدم
تضعيف هذين القولين . وكرر " أولئك " تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى
ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة
لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى : ( أؤلئك
كَ الأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أؤلئك هُمُ الْغَافِلُونَ ( [ الأعراف : 179 ]
لأن الخبرين - هنا - متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن
الخبرين فيها شيء واحد ؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ ، وتشبيههم بالأنعام معنى
واحد ، فكانت عن العَطْف بمعزل .
قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة هو " أولئك "
إيذانٌ بأن ما يراد عقبه ،

" "
صفحة رقم 304 " "
والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم ، كقول
حاتم : [ الطويل ]
138 - وَللهِ صُعْلُوكٌ . . . .
. . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
ثم عدَّد له فاضلة ، ثم عقَّب تعديدها بقوله : [ الطويل
]
139 - فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ
وَإِنْ عَاشَ لَمْ
يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً
و " الفلاح " أصله : الشقُّ ؛ ومنه قوله : [
الرجز ]
140 - إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ
ومنه قول بكر النّطاح :
[ الكامل ]
141 - لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا
إِنَّ الْحَدِيدَ
بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ
ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية ؛
ويراد به البقاء قال : [ الرجز ]
142 - لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ
الفَلاَحِ
أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقال : [ الطويل ]
143 -
نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا
ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ
وَحِمْيَرِ
وقال : [ المنسرح ]

" "
صفحة رقم 305 " "
44 - لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ
والمْمُسْيُ
وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهُ
والمُفْلج - بالجيم - مثله ، ومعنى التعريف في "
المُفْلِحون " الدلالة على أن المتقين هم الناي أي : أنهم الذين إذا حصلت صفةُ
المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت السد ، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام
؟ إن زيداً هو هو .
فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه
هذه الاية يتمسّك بها
الوعيدية والمُرْجِئة .
أما الوعيديّة فمن وجهين :
الأول : أن قوله : "
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ " يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن
لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة .
الثاني : أن
ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك

" "
صفحة رقم 306 " "
الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة
والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب إلا يحصل الفلاح
.
وأما المُرْجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات
المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً ، وأن زَنَى
وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة
؛ لأنه لا قائل بالفرق .
قال ابن الخطيب : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين
معارض بالآخر ، فيتساقطان .
والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : " أولئك هم
المفلحون " يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل
الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح ، وهو غير جازمٍ
بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً .
وعن الثاني : أن نفي السبب لا
يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى
.

" "
صفحة رقم 307 " "
والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ
الثواب ؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم .
(
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (
اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل ، لكن
الحروف أشبه الفعل صورة ومعنى ، فاقتضى كونه عاملاً .
أما المُشَابهة في اللفظ
فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها ، ولزمت الأسماء كالأفعال ، وتدخل نون
الوقاية نحو " إنّني وكأنّني " كما تدخل على الفعل نحو : " أعطاني وأكرمني " ، وأما
المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم ، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل
.
روى ابن الأنباري " أن الكِنْدِيّ " المتفلسف ركب إلى المبرد وقال : إني أجد
في كلام العرب حشواً ، أجد العرب تقول : " عبد الله قائم " ، ثم يقولون : " إنَّ
عبد الله قائم " ثم يقولون : " إنَّ عبد الله لقائم " .
فقال المبرد : بل
المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ : فقولهم : : عبد الله قائم " إخبار عن قيامه ،
وقولهم : " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : " إن عبد الله لقائم "
جواب عن إنكار منكر لقيامه .
واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر
جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى لْقَرْنَيْنِ ( [
الكهف : 83 ] إلى أن قال : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ( [ الكهف : 84 ] ، وقوله : (
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِ الْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ( [ الكهف : 13 ]
، وقوله : ( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِى ءٌ ( [ الشعراء : 216 ] .
قال
عبد القاهر : والتحقيق أنّها للتأكيد ، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم
يحتج إلى " أن " ، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف ، فأما دخوله اللاّم
معها في جواب المنكر ، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد .
فإن قيل : فلم لا دخلت "
اللام " في خبرها في قوله تعالى : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ ( [ المؤمنون : 16 ] ، وأدخل " اللام " في خبرها في قوله قبل ذلك : (
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ

" "
صفحة رقم 308 " "
ذ الِكَ لَمَيِّتُونَ ( [ المؤمنون : 15 ] ، وهم كانوا
يتيقنون الموت ، فلا حاجة إلى التأكيد ، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول "
اللام " على البعث أشد ليفيد التأكيد .
فالجواب : أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله :
( خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( [
المؤمنون : 12 - 14 ] .
فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في
التأكيد من دخول " اللام " على خبر " إن " ، وهي تنصب الاسم ، وترفع الخبر خلافاً
للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها .
وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما
أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً ، وتنصبهما معاً ، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو
بالعكس والأول باطل ؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما ، فلم يظهر للعمل أثر البتة
، ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الاسمين ، فلا معنى للاشتراك ، والفرع
لا يكون أقوى من الأصل . والثاني - أيضاً - باطل ، لأنه مخالف لعمل الفِعْل ، لأن
الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه .
والثالث - أيضاً - باطل لأنه يؤدي إلى
التسوية بين الأصل والفرع ؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع ؛ ثم في المفعول
بالنصب ، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع .
ولما بطلت
الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع ، وهي أنها تنصب الاسم ، وترفع الخبر ، وهذا مما
ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل ؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع
في باب الفعل عدول عن الأصل .
وتخفّف " إن " فتعمل وتهمل ، ويجوز فيها أن تباشر
الأفعال ، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول " لام " الابتداء في خبرها ، أو معمولة
المقدم عليها ، أو اسمها المؤخّر ، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختص -
أيضاً - بالعَطْفِ على محل اسمها ، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة .
و " الذين "
اسمها و " كفروا " صلة وعائد ، و " لا يؤمنون " خبرها ، وما بينهما اعتراض ، و "
سواء " مبتدأ ، و " أنذرتهم " وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر ،
والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه ، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ ؛ لأنّ الجملة نفس
المبتدأ ، ويجوز أن يكون " سواء " خبراً مقدماً ، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور
مبتدأ مؤخر تقديره : الإنذار وعدمه سواء .

" "
صفحة رقم 309 " "
قال ابنُ الخَطِيبِ : اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه ؛
لأن قوله : " خرج ضرب " ليس بكلام منتظم ، وقد قدحوا فيه بوجوه :
أحدها : أنَّ
قوله : " أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ " فعل ، وقد أخبر عنه بقوله
:
سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ " ، ونظيره " ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا
الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ " فاعل " بَدَا " هو " يسجننه " .
وثانيها : أن المخبر
عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن قيل :
المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن
قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم .
قلنا : فعلى هذا
المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً ؛ والتحقيق أن
المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون ، فإن كان الأول كان هذا الخبر
كذباً ؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه
.
وثالثها : أنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه ، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر
عنه ، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا
يخبر عنه ، وهذا خطأ ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه . ثم قال هؤلاء : لما
ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر .
أما
جمهور النحويين فقالوا : لا يجوز الإخبار عن الفعل ، فلا جرم كان التقدير : سواء
عليهم إنذارك وعدمه .
وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم " إن " وخبرها ،
وهو " لا يؤمنون " كما تقدم ، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً ل " إن " ، وجملة " لا
يؤمنون " في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة ، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان -
وهو بعيد - أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك .
ويجوز أن يكون " سواء "
وحده خبر " إن " ، و " أأنذرتهم " وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل
له ، والتقدير : استوى عندهم الإنذار وعدمه .
و " لا يؤمنون " على ما تقدّم من
الأوجه 0 أعني : الحال والاستئناف والدعاء والخبرية .
والهمزة في " أأنذرتهم "
الأصل فيها الاستفهام ، وهو - هنا - غير مراد ، إذ المراد التسوية ، و " أنذرتهم "
فعل وفاعل ومفعول .
و " أم " - هنا - عاطفة وتسمى متصلةً ، ولكونها متصلة شرطان
:
أحدهما : أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً
.

" "
صفحة رقم 310 " "
والثاني : أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه
الآية ، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم ، وجوابها أحد الشِّيئين أو الأشياء
، ولا تجاب ب " نعم " ولا ب " لا " ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة ، وتقدر ب
" بل والهمزة " ، وجوابها " نعم " أو " لا " ولها أحكام أخر .
و " لم " حرف جزم
معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلّ على ذلك قوله
تعالى : ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ( [ مريم : 4 ] ) لَمْ يَلِدْ
وَلَمْ يُولَدْ ( [ الإخلاص : 3 ] . وهذا لا يتصور فيه الانقطاع ، وهي من خواصّ صيغ
المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم . وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو
المعنى دون اللفظ ؟

" "
صفحة رقم 311 " "
قولان : أظهرهما الثاني : وقد يحذف مجزومها كقوله : [ الكامل
]
145 - إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا
يَوْمَ الأَعَازِبِ ،
إِنْ وَصَلْتَ ، وإِنْ لَمِ
و " الكفر " أصله : الستر ؛ ومنه : " الليل
الكَافِرُ " ؛ قال : [ الرجز ]
146 - فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ
الفَجْرِ
وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ
وقال [ الكامل ]
147 -
فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَمَا
أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي
كَافِرِ
والكفر - هنا - الجحود . وقال آخر : [ الكامل ]
148 - . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ
غَمَامُهَا
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ " الكفر " في القرآن على أربعة
أَضْرُبٍ :
الأول : الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى : ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ( ؟ الثاني : بمعنى
الجُحُود قال تعالى : ( فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( [
البقرة : 89 ] .
الثالث : بمعنى كفر النّعمة ، قال تعالى : ( لَئِن شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ( [ إبراهيم : 7 ] أي : بالنعمة ، ومثله : (
وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( [ البقرة : 152 ] وقال تعالى : ( أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ ( [ النمل : 40 ] .
الرابع : البراءة ، قال تعالى : ( إِنَّا
بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ( [
الممتحنة : 4 ] أي : تبرأنا منكم ، وقوله : ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ
بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ( [ العنكبوت : 25 ] .
و " سواء " اسم معنى الاستواء ، فهو
اسم مصدر ، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ ، فيحتمل حينئذٍ ضميراً ، ويرفع الظاهر ،
ومنه قولهم : " مررت برجل سواء والعدم " برفع

" "
صفحة رقم 312 " "
" العدم " على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في " سواء " ،
وشذ عدم بمعنى : " مثل " ، تقول : " هما سِيّان " بمعنى : مِثْلان ، قال : [ البسيط
]
149 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ
عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ
على أنه قد حكي سواءان . وقال الشاعر : [ الطويل ]
150
- وَلَيْلٌ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ
سَوَاءٌ صَحِيحَاتً العُيُونِ
وَعُورُهَا
ف " سواء " خبر عن جمع هو " صحيحات " ، وأصله : العدل ؛ قال زهير : [
الوافر ]
151 - أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا
يُسَوِّي بِيْنَنَا فِيهَا
السَّوَاءُ
أي : يعدل بيننا العدل . وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك : "
قاموا سواء زيد " وإن شاركه لفظاً .
ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع
المشهورة في " سوى " المستثنى به ، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في " سواء
" الذي بمعنى الاستواء .
وأكثر ما تجيئ بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة
ب " أم " كهذه الآية ، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى : ( فَ اصْبِرُو ا أَوْ لاَ
تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ( [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد
يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة : [ الطويل ]
152 - سَوَاءٌ
عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ
أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بأَسْعَدِ
ف
" أي حين " منصوب ب " أتيته " ، وقد يعرى عن الاستفهام ، وهو الأصل ؛ نحو : [
الطويل ]

" "
صفحة رقم 313 " "
53 - . . . . . . . . . . . . . . . . .
سَوِاءٌ
صَحِيْحاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
فصل في استعمالات " سواء "
وقد ورد لفظ "
سواء " على وجوه :
الأول : بمعنى : الاستواء كهذه الآية .
الثاني : بمعنى :
العَدْل ، قال تعالى : ( إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( [ آل
عمران : 64 ] أي : عدل ؛ ومثله : ( سَوَآءَ السَّبِيلِ ( [ الممتحنة : 1 ] أي : عدل
الطريق .
الثالث : بمعنى : وسط ، قال تعالى : ( فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ ( [
الصافات : 55 ] أي : وسط الجحيم .
الرابع : بمعنى : البَيَان ؛ قال تعالى : (
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَ انْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ ( [
الأنفال : 58 ] أي : على بيان .
الخامس : بمعنى : شرع ، قال تعالى : ( وَدُّواْ
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ( [ النساء : 89 ] يعني :
شرعاً .
السادس : بمعنى : قصد ، قال تعالى : ( عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِي
سَوَآءَ السَّبِيلِ ( [ القصص : 22 ] أي : قصد الطريق . و " الإنذار " : التخويف
.
وقال بعضهم : هو الإبلاغ ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز ،
فإن لم يسع زمانه الاحتراز ، فهو إشعار لا إنذار ؛ قال : [ الكامل ]
154 -
أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ
قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى
عَمْرُو
ويتعدّى لاثنين ، قال تعالى : ( إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً
قَرِيباً ( [ النبأ : 40 ] ، ) أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ( [ فصلت : 13 ] فيكون
الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره : أأنذرتهم العذاب أم لم تنذروهم إياه ،
والأحسن ألا يقدر له مفعول ، كما تقدم في نظائره .
والهمزة في " أنذر " للتعدية
، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد ؛ لأن التسوية هنا غير مرادة .
فقال
ابن عَطيَّةَ : لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام
؛ لأنَّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً : " سواء
علي أَقُمْت أم قعدت " ، وإذا قلت مستفهماً : " أخرج زيد أم قام " ؟ فقد استوى
الأمران عندك ؟ هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما
عمتهما

" "
صفحة رقم 314 " "
التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام ؛ لمشاركته إيَّاه في
الإبهام ، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً ، إلاَّ أن بعضهم
ناقشه في قوله : " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه " الخبر "
بما معناه : أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر ؛ لأنه مقدر بالمفرد
كما تقدم ، وعلى هاذ فليس هو وحده في معنى الخبر ؛ لأن الخبر جملة ، وهذا تأويل
مفرد ، وهي مناقشة لفظية .
وروي الوقف على قوله : " أَمْ لَمْ تُنْذِرْ "
والابتداء بقوله : " هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ " على أنها جملة من مبتدأ وخبر . وهذا
ينبغي ألا يلتفت إليه ، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في " الوقف والابتداء " له
.
وقرىء " أأنذرتهم " بهمزتين محقّقتين بينهما ألف ، وبهمزتين ، محقّقتين بلا
ألف بينهما وهي لغة " بني تميم " ، وأن تكون الأولى قوية ، والألف بينهما ، وتخفيف
الثانية بين بين ، وهي لغة " الحجاز " وبتقوية الهمزة الأولى ، وتخفيف الثانية ،
وبينهما ألف . فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله : [ الطويل
]
155 - أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ
وَبَيْنَ النَّقَا
آأَنْتَ أَمْ أُمُّ سَالِمِ ؟
وقال آخر : [ الطويل ]
156 - تَطَالَلْتُ
فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ
فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ
؟
وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة .
ونسب الزمخشري هذه القراءة
لِلَّحْنِ ، قال : إنما هو بَيْنَ بَيْنَ . وهذا منه ليس بصواب ، لثبوت هذه القراءة
تواتراً .

" "
صفحة رقم 315 " "
وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر ، وهمزة الاستفهام
مرتدة ، ولكن حذفها تخفيفاً ، وفي الكلام ما يدلّ عليها ، وهو قوله : " أم لم " ؛
لأن " أم " تُعَادل الهمزة ، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير .
فصل في
المراد بالكافرين في الآية
المراد من " الذين كفروا " يعني مشركي العرب كأبي
لَهَبٍ ؛ وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وأضرابهم . وقال الكلبي : " هم رؤساء
اليَهُودِ والنُعَاندون " وهو قول ابن عباس . والكفر - هنا - الجحود ، وهو على
أربعة أضرب :
كفر إنكار ، وكفر جُحُود ، وكفر عِنَادٍ ، وكفر نفاق :
ف " كفر
الإنكار " : هو ألا يعرف الله أصلاً ، ولا يعترف به .
وكفر الجُحُود : هو أن
يعرف الله بقلبه ، ولا يقر بلسانه ، ككفر إبليس ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا جَآءَهُمْ
مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( [ البقرة : 89 ] .
وكفر العناد : هو أن يعرف
الله بقلبه ، ويعترف بلسانه ، ولا يدين به ؛ ككفر أبي طَالِبٍ ؛ حيث يقول : [
الكامل ]
157 - وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ
مِنْ خَيْرِ
أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارِ
مَسَبَّةٍ
لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
وكفر النفاق : هو أن يقر
باللسان ، ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله - تعالى -
بواحد منها ؛ لا يغفر له .
فصل في تحقيق حد الكفر
قال ابن الخطيب : تحقيق
القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد - عليه الصلاة والسلام - أنه ذهب إليه ،
وقال به ، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة ، أو بالاستدلال ، أو بخبر الواحد
الذي علم بالضرورة ، فمن صدق به جميعه ، فهو

" "
صفحة رقم 316 " "
مؤمن ، ومن لم يصدق بجميعه ، أو لم يصدق ببعضه ، فهو كافر ،
فإذن الكفر عدم تصديق

" "
صفحة رقم 317 " "
الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عليه
الصلاة والسلام .

" "
صفحة رقم 318 " "
ومثاله من أنكر وجود الصّانع ، أو كونه عالماً مختاراً ، أو
كونه واحداً ، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات ، أو أنكر نبوة محمد - ( صلى
الله عليه وسلم ) - ؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ،
فذلك يكون كافراً .
فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً
بالعلم أو بذاته ، وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا ، فلم
ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في
ماهيّة الإيمان ، فلا يكون موجباً للكفر ، والدليل عليه أنه لو جاء جزءاً من ماهية
الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في
تلك المسألة بين جميع الأمّة ؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلمَّا لم ينقل ذلك
دلّ على أنه - عليه الصلاة والسلام - ما وقف الإيمان عليها ، ولما لم يكن كذلك وجب
ألا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجباً للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا
يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل ، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد ،
فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه ، والله أعلم .
فصل في الردّ على
المعتزلة
احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله : " إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا " ، ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ( [ الحجر : 9 ] ، )
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( [ القدر : 1 ] ، ) إِنَّآ
أَرْسَلْنَا نُوحاً ( [ نوح : 1 ] على أن كلام الله محدث ، سواء كان الكلام هذه
الحروف ، أو الأصوات ، أو كان شيئاً آخر .

" "
صفحة رقم 319 " "
قالوا : لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان
مسبوقاً بالمخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير ، فهذا الخبر يستحيل
أن يكون قديماً ، فيجب أن يكون محدثاً .
أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين
:
الأول : أن الله - تعالى - كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده
انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ، ولم يلزم حدوث
علم الله تَعَالَى ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن حبر الله - تعالى - في الأزل
كان خبراً بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ،
ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى ؟ .
الثاني : أن الله - تعالى - قال : (
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( [ الفتح : 27 ] ، فلما دخلوا المسجد الحرام
، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى انهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير
الخبر الأول ، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا ؟ فإن قلت : قوله : " إِنَّ
الَّذينَ كَفَرُوا " صيغة جمع مع " لام " التعريف ، وهي للاستغراق بظاهره ، ثم إنه
لا نزاع في تكلّم بالعام وأراد الخاص ، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن
المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول - عليه الصلاة
والسلام - فحسن ذلك لعدم اللّبس ، وظهور المقصود ، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام
لإرادة الخاص جائز ، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان
التخصيص عن وقت الخِطَاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ
العموم على القطع بالاستغراق ، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص ، وكانت القرينة
الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا جَرَمَ حين ذلك ،
وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم .
وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال
المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله أعلم .
فصل
في المذهب الحق في " تكليف ما لا يطاق "
قال ابن الخطيب : احتج أهل السُّنة
بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره : أنه - تعالى - أخبر عن شخص
معين أنه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله - تعالى - الصدق
كذباً ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما
مُحَالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المُحَال محال ، فصدور الإيمان منه مُحَال ،
فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا

" "
صفحة رقم 320 " "
في صورة العلم ، وهو أنه - تعالى - لما علم منه أنه لا يؤمن ،
فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً ، وذلك محال ، ويستلزم من
المُحَال محال ، فالأمر واقع بالمحال . ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ : وهو أن وجود
الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن ؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان
مطابقاً للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً
ومعدوماً معاً ، وهذا مُحَال ، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر
بالجمع بين الضِّدِّين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك مُحَال
.
ونذكر هذا على وَجْه رابع : وهو أنه - تعالى - كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم
بأنهم لا يؤمنون البتة [ والإيمان يعتبر فيه تصديق الله - تعالى - في كل ما أخبر
عنه أنهم لا يؤمنون قط ] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنون بأنهم لا يؤمنون قط ، وهو
مكلف بالجمع بين النفي والإثبات .
ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه - تعالى -
عاب الكُفَّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله : (
يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ
قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ( [ الفتح : 15 ] ، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله
عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه .
ثم هاهنا أخبر الله -
تعالى - عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل
كلام الله ، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون - أيضاً - مخالفة لأمر الله ،
فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل . فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي
هادمة لأصول الاعتزال ، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة ، فيأتي
الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى .
( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عظِيمٌ (
اعلم أنه - تعالى - لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر
في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم .
واعلم أن الختم والكَتْم
أخوان وهو : الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية ؛ لئلا يتوصّل
إليه ، ومنه : الخَتْم على الباب .
" على قلوبهم " متعلّقة ب " ختم " ، و " على
سمعهم " يحتمل عطفه على " قلوبهم " ، وهو الظاهر ، للتصريح بذلك ، أعني : نسبة
الختم إلى السمع في قوله تعالى : ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ ( [ الجاثية : 23 ]
ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً ، وما بعده عطف عليه .

" "
صفحة رقم 321 " "
و " غشاوة " مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان
خَبَرُها ظرفاً ، أو حرف جر تاماً ، وقدم عليها جاز الابتداء بها ، [ ويكون تقديم
الخبر حينئذٍ واجباً ؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة ] ، والآية من هذا القبيل ، وهذا
بخلاف قوله تعالى : ( وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( [ الأنعام : 2 ] ؛ ويبتدأ بما
بعده ، وهو " وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ " ف " على أبصارهم " خبر مقدم ، و " غِشَاوة "
مبتدأ مؤخر .
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على " قلوبهم " ، وإنما كرر حرف الجر ؛
ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين ، وهو : أن ختم القلوب غير ختم
الأسماع .
وقد فرق النحويون بيم " مررت بزيد وعمرو " وبين " مررت بزيد وبعمرو "
فقالوا في الأول هو ممرور واحد ، وفي الثاني هما ممروران ، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ ،
إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين ، أعني : جعل " وعلى سمعهم " معطوفاً على
قوله : " على قلوبهم " ، وجعله خبراً مقدماً .
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا
يجيء إلا على الاحتمال الأول ، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف
يُشعر بتغاير الغِشَاوتين ، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على
البَصَرِ ، كما تقدم ذلك في الختمين .
وقرىء : غِشَاوة بالكسر والنصب ، وبالفتح
والنصب وبالضَّم والرفع ، وبالكسر والرفع - و " غشوة " بالفتح والرفع والنصب - و "
غشاوة " بالعين المهملة ، والرفع من العَشَا . فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه
:
الأول : على إضمار فعل لائق ، أي : وجعل على أبصارهم غِشَاوة ، وقد صرح بهذا
العامل في قوله تعالى : ( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ( [ الجاثية : 23 ]
.
والثاني : الانتصاب على إسقاط حرف الجر ، ويكون " على أَبْصَارهم " معطوفاً
على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم بغشاوة
، ثم حذف الجر ، فانتصب ما بعده ؛ كقوله : [ الوافر ]
159 - تَمُرُّونَ
الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا
كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ
حَرَامُ

" "
صفحة رقم 322 " "
أي :
تمرون بالدِّيَار ، ولكنه غير مقيس .
والثالث : أن
يكون " غشاوة " اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل " خَتَمَ " في المعنى ؛ لأن
الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر ، فكأنه قيل : " وختم التغشية " على سبيل
التأكيد ، فهو من باب " قعدت جلوساً " ، وتكون " قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً
عليها مغشاة " . وقال الفَارِسِيّ : قراءة الرفع الأولى ، لأن النَّصب إما أن تحمله
على فعل يدلّ عليه " ختم " ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهذا الكلام من باب
: [ الكامل ]
160 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
مُتَقَلِّداً سَيْفاً
وَرُمْحاً
وقوله : [ الرجز ]
161 - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً
بَارِداً
حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في
حالة سَعَةٍ ، ولا اختيار .
واستشكل بعضهم هذه العبارة ، وقال : لا أدري ما معنى
قوله ؛ لأن النصب إما أن تحمله على " خَتَم " الزاهر ، وكيف تحمل " غشاوة " المنصوب
على " ختم " الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه ؟
قال : اللّهم إلا أن يكون أراد أن
قوله تعالى : " ختم الله على قلوبهم " دعاء عليهم لا خَبَر ، ويكون " غشاوة " في
معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل ، فكأنه قيل
:

" "
صفحة رقم 323 " "
وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على " ختم "
عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء ، نحو : " رحم الله زيداً وسُقياً له "
فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين " غشاوة " المعطوف وبين " خَتَمَ " المعطوف عليه بالجار
والمجرور . وهو تأويل حسن ، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً ؛ لأن الفارسي ما ادّعى
الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي
بالحرف ، فتحرير التأويل أن يقال : فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار
والمجرور .
والقراءة المشهورة بالكسر ؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء
أبداً على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة .
والغِشَاوة فِعَالة : الغطاء
من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء ، ومنه غشي عليه ،
وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع .
و " القلب " أصله المصدر ، فسمي به هذا العضو
الصَّنَوْبَرِي ؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه ، ولهذا قال : [ البسيط
]
162 - مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ
فَاحْذَرْ عَلَى
القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً
بينه وبين أصله ، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبِّ كل شيء وخالصه
.
و " السمع " و " السماع " مصدران ل " سمع " ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ؛ قال
: [ البسيط ]
163 - وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزَاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ
بِنَبْأَةِ
الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ
أي : ما في استماعه . و " السِّمْع " -
بالكسر - الذِّكْر بالجميل ، وهو - أيضاً - ولد الذئب من الضَّبُع ، ووحد وإن كان
المراد به الجمع كالذي قبله وبعده ؛ لأنه مصدر حقيقة ، يقال : رَجُلان صَوْم ،
ورجال صوم ، ولأنه على حذف مضاف ، أي : مواضع سمعهم ، أو حواس سمعهم ، أو يكون كني
به عن الأُذُن ، وإنما لفهم المعنى ؛ كقوله [ الوافر ]
164 - كُلُوا فِي بَعْضِ
بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم
.

" "
صفحة رقم 324 " "
ومثله قال سيبويه : " إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر
ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع " .
ومنه أيضاً قال تَعَالى :
( يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى لنُّورِ ( [ البقرة : 257 ] ، ) عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ( [ ق : 17 ] ؛ قال الراعي .
165 - بِهَا جِيَفُ
الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا
فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
أي : جلودها
.
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ : " أسماعهم " .
قال الزمخشري : واللفظ يحتمل أن
تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم ، وفي حكم التَّغْشِيَةِ ، إلاّ أن الأولى
دخولها في حكم الختم ؛ لقوله تعالى : ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ( [ الجاثية : 23 ]
و " الأبصار " : جمع بصر
، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات .
قالوا : وليس بمصدر لجمعه ، ولقائل أن
يقول : جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به
نور العين ، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية ، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب .
وقد
قلتم : إنه في الأصل مصدر ثم سمي به ، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن ، كما كي بالسمع
عن الأذن ، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم .
وقرأ أبو عمرو
والكِسَائي : " أبصارهم " بالإِمَالَةِ ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء
كانت لام الفعل يميلانها .
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء " كالقرار " ونحوه
، وزاد الكسائي إمالة ) جَبَّارِينَ ( [ المائدة : 22 ] ، و ) الْجَوَارِ ( [
الشورى : 32 ] ، و ) بَارِئِكُمْ ( [ البقرة : 54 ] ، و ) مَنْ أَنصَارِى ( [ آل
عمران : 32 ] ، و ) نُسَارِعُ ( [ المؤمنون : 56 ] وبابه ، وكذلك يميل كل ألف هي
بمنزلة لام الفعْل ، أو كانت علماً للتأنيث مثل : ( الْكُبْرَى ( [ طه : 23 ] ، و )
الأُخْرَى ( [ الزمر : 42 ] ، ولام الفعل مثل : ( يَرَى ( [ البقرة : 165 ] ، و )
افْتَرَى ( [ آل عمران : 94 ] يكسرون الراء منها .

" "
صفحة رقم 325 " "
و " الغشاوة " : الغطاء .
قال : [ الطويل ]
166 -
تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ
فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ
نَفْسِي أَلُومُهَا
وقال : [ البسيط ]
167 - هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ
مَا حَسبِي
إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا
وجمعها " غشاءٌ "
، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة .
وقيل : " غشاوي " مثل " أداوي " .
قال
الفارسي : لم أسمع من " الغشاوة " فعلاً متصرفاً ب " الواو " ، وإذا لم يوجد ذلك ،
وكان معناها معنى ما " اللام " منه " الياء " ، وهو غشي بدليل قولهم : " الغِشْيَان
" ، و " الغشاوة " من غشي ك " الجِبَاوة " من جبيت في أن " الواو " كأنها بدل من "
الياء " ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة . وظاهر عبارته أن
" الواو " بدل من " الياء " ، و " الياء " أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة "
الواو " . والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين " غ ش و " ، و " غ ش ي " ، ثم تصرفوا
في إحدى المادتين ، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى ، وهذا أقرب من ادعاء
قلب " الواو " " ياء " من غير سبب ، وأيضاً " الياء " أخف من " الواو " ، فكيف
يقلبون الأخف للأثقل ؟ و " لهم " خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف ، و " عذاب " مبتدأ مؤخر
و " عظيم " صفة . والخبر - هنا - جائز التقديم ؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو صفة ونظيره
: ( وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( [ الأنعام : 2 ] من حيث الجواز .
والعذاب في
الأَصْل : الاستمرار ، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ .
وقيل : أصله : المَنْع ،
وهذا هو الظَّاهر ، ومنه قيل للماء : عَذَب ؛ لأنه يمنع العطش ، والعذاب يمنع من
الجريمة .
" عظيم " اسم فاعل من " عَظُمَ " ، نحو : كريم من " كَرُم " غير مذهوب
به مذهب الزمان ، وأصله أن توصف به الأجرام ، ثم قد توصف به المعاني .
وهل هو و
" الكبير " بمعنى واحد أو هو فوق " الكبير " ؛ لأن العظيم يقابل الحقير ، والكبير
يقابل الصغير ، والحقير دون الصغير ؟ قولان .

" "
صفحة رقم 326 " "
و " فعيل " له معانٍ كثيرة ، يكون اسماً وصفة ، والاسم مفرد
وجمع ، والمفرد اسم معنى ، واسم عين ، نحو : " قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب "
.
والصفة مفرد " فُعْلَة " ك " غَزِب " يجمع على غُزَاة " ومفرد " فَعَلَة " ك "
سَرِي " يجمع على " سَرَاة " .
ويكون اسم فاعل من " فَعُلَ " نحو : عظيم من
عَظُم كما تقدم .
ومبالغةً في " فَاعِل " ، نحو " عليم من عالم " .
وبمعنى "
أَفْعَل " ك " شميط " بمعنى : " أشمط " و " مَفْعُول " ك " جريح " بمعنى : مجروح ،
و " مُفْعِل " ك " سَمِيع " بمعنى " " مُسْمِع " ، و " مُفْعَل " ، ك " وَلِيد "
بمعنى : مُولَد ، و " مُفَاعِل " ، ك " جَلِيس " بمعنى : مُجَالِس ، و " مُفْعَل "
، ك " بَدِيع " بمعنى : مُبْتَدِع ، و " مُفْتَعِّل " ك : " سَعِير " بمعنى :
مُتَسَعِّر " ، و " مُسْتَفْعِل " ك " مَكِين " بمعنى : " مُسْتَمْكن " .
و "
فَعْل " ك " رطيب " بمعنى : " رَطْبْ " ، و " فَعَل " ك " عجيب " بمعنى : " عجب " و
" فِعَال " ك " صحيح " بمعنى : صِحَاح ، وبمعنى : " الفاعل والمفعول " ك " صريخ "
بمعنى : " صاروخ ومصروخ " . وبمعنى الواحد والجمع نحو : " خليط " ، وجمع فاعل ك "
ريب " جمع غارب .
فصل في أيهما أفضل : السمع أو البصر ؟
من الناس من قال :
السَّمع أفضل منى البَصَرِ ؛ لأن الله - تعالى - حيث ذكرهما قد السَّمع على البصر ،
والتقديم دليلٌ على التفضيل ، ولأن السمع شرط النبوّة بخلاف البَصَرِ ، ولذلك ما
بعث الله رسولاً أَصَمّ ، وقد كان فيهم الأعمى ، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول
البعض إلى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف ، والبَصَر لا يوقفك
إلى على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ ، ولأن السمع
متى بطل النُّطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق .
ومنهم من قدم البصر ؛ لأنّ
آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوة
السَّامعة هو الريح .
فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم
الألفاظ الواردة في
القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي " الطَّبع " و " الكنان " و " الرين " على القلب
، و " الوقر " في الأذن ، و " الغشاوة " في ابصر .
واختلف الناس في هذا الخَتْم
: فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ،
ثم لهم قولان :
منهم من قال : الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار
.

" "
صفحة رقم 327 " "
ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة
صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر .
وأما المعتزلة فأوّلوا هذه
الآية ، ولم يرجوها على ظاهرها .
أما قوله تعالى : " لهم عذاب عظيم " أي : في
الآخرة .
وقيل : الأَسْر والقَتْل في الدنيا ، والعذاب الدائم في العُقْبى
.
و " العذاب " مشتق من " العَذْب " وهو القَطْع ، ومنه سمي الماء الفرات
عَذْباً ، لأنه يقطع العطش .
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (
" من الناس " خبر مقدم ، و "
من يقول " مبتدأ مؤخر ، و " مَنْ " تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة أي :
الذي يقول ، أو فريق يقول ، فالجملة على الأول لا محل لها ؛ لكونها صلة ، وعلى
الثاني محلها الرفع ؛ لكونها صفة للمبتدأ .
واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ
موصولة ، قال : لأن " الذي " يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام
.
وهذا منه غير مسلم ؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله
بن أبي ورهطه .
وقال الزمخشري : إن كانت أل للجنس كانت " منْ " نكرة موصوفة
كقوله : ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ ( [
الأحزاب : 23 ] .
وإن كانت للعَهْد كانت موصولة ، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس ،
والعهد للعهد ، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم ، بل يجوز أن تكون " أل " للجنس ،
وتكون " منْ " موصولة ، وللعهد ، و " منْ " نكرة موصوفة .
وزعم الكِسَائِيّ أنها
لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة ؛ كقوله : [ الرمل ]
168 - رُبَّ مَنْ
أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ
لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطِعْ
وهذا
الذي قاله هو الأكثر ، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة ؛ قال : [
الكامل ]

" "
صفحة رق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wisdom.ahlamontada.com
 
سورة البقرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  هل البسملة آية من كل سورة أم لا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات روافد الحكمه  :: الفئة الأولى :: المنتدى الاسلامى :: ركن القران الكريم وعلومه :: علوم القرآن-
انتقل الى:  

.: انت الزائر رقم :.

الشريط
يا ودود يا ودود يا ودود .. ياذا العرش المجيد .. يا مبدئ يا معيد .. يا فعالا لما يريد .. أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك .... وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك .. وأسألك برحمتك التي وسعت كل شيء .. لا إله إلا أنت .. يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه .. استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ... استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه .. اللهم إنا نسألك زيادة في الأيمان. وبركة في العمر .. وصحة في الجسد .. وذرية صالحه .. وسعة في الرزق .. وتوبة قبل الموت .. وشهادة عند الموت .. ومغفرة بعد الموت .. وعفواً عند الحساب ... وأماناً من العذاب .. ونصيباً من الجنة .. وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم .. اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين .. واشفي مرضانا ومرضا المسلمين .. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات .. والمؤمنين والمؤمنات ... الأحياء منهم والأموات .. اللهم من اعتز بك فلن يذل .. ومن اهتدى بك فلن يضل .. ومن استكثر بك فلن يقل .. ومن استقوى بك فلن يضعف .. ومن استغنى بك فلن يفتقر .. ومن استنصر بك فلن يخذل .. ومن استعان بك فلن يغلب .. ومن توكل عليك فلن يخيب .. ومن جعلك ملاذه فلن يضيع .. ومن اعتصم بك فقد هدي إلى صراط مستقيم .. اللهم فكن لنا وليا ونصيرا ً... وكن لنا معينا ومجيرا .. إنك كنت بنا بصيرا .. يا من إذا دعي أجاب .. يا رب الأرباب .. يا عظيم الجناب .. يا كريم يا وهّاب .. رب لا تحجب دعوتي .. ولا ترد مسألتي .. ولا تدعني بحسرتي .. ولا تكلني إلى حولي وقوّتي .. وارحم عجزي .. وأنت العالم سبحانك بسري وجهري .. المالك لنفعي وضري ... القادر على تفريج كربي .. وتيسير عسري .. اللهم أحينا في الدنيا مؤمنين طائعين .. وتوفنا مسلمين تائبين ... اللهم ارحم تضرعنا بين يديك .. وقوّمنا إذا اعوججنا .. وكن لنا ولا تكن علينا .. اللهم نسألك يا غفور يا رحمن يا رحيم .. أن تفتح لأدعيتنا أبواب الاجابه .. يا من إذا سأله المضطر أجاب .. يا من يقول للشيء كن فيكون ... اللهم لا تردنا خائبين .. وآتنا أفضل ما يؤتى عبادك الصالحين .. اللهم ولا تصرفنا عن بحر جودك خاسرين .. ولا ضالين ولا مضلين .. واغفر لنا إلى يوم الدين .. برحمتك يا أرحم الرحمين .. أستغفر الله العظيم الذي لا اله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ربنا آتنا في الدنيا حسنة... وفي الآخرة حسنة... وقنا عذاب النار اللهم إني اسألك من خير ما سألك به محمد صلى الله عليه وسلم .. واستعيذ بك من شر ما استعاذ به محمد صلى الله عليه وسلم .. اللهم ارزق كاتب وقارىء الرسالة ومن ساهم بنشرها مغفرتك بلا عذاب .. وجنتك بلا حساب ورؤيتك بلا حجاب .. اللهم ارزق كاتب وقارىء الرسالة ومن ساهم بنشرها زهو جنانك .. وشربه من حوض نبيك واسكنه دار تضيء بنور وجهك .. اللهم اجعلنا ممن يورثون الجنان ويبشرون بروح وريحان ورب غير غضبان .. اللهم حرم وجه كاتب و قارىء الرسالة ومن ساهم بنشرها على النار واسكنهم الفردوس الاعلى بغير حساب .. اللهم آمين اللهم آمين اللهم آمين ,, يارب اللهم يا عزيز يا جبار اجعل قلوبنا تخشع من تقواك واجعل عيوننا تدمع من خشياك واجعلنا يا رب من أهل التقوى وأهل المغفرة وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

المواضيع الأخيرة
» الظلم
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:53 am من طرف ebrehim

» سوء الظن
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:49 am من طرف ebrehim

» السخريه والاستهزاء
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:48 am من طرف ebrehim

» الذل
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:46 am من طرف ebrehim

» الخيانه
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:43 am من طرف ebrehim

» الحقد
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:41 am من طرف ebrehim

» الحسد
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:40 am من طرف ebrehim

» الجدل والمراء
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:29 am من طرف ebrehim

» الجبن
سورة البقرة I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 21, 2013 9:24 am من طرف ebrehim

مواضيع مماثلة

اهلا بك يا
عدد مساهماتك 0 وننتظر المزيد