فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى ،
والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي
الشّرْك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين
.
" "
صفحة رقم 276 " "
وفي الحديث : " كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) " .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن
المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب ،
وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار : " حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً
ذا شَوْكٍ ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك
التَّقوى " . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما
افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقوَى
ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله - تعالى - ذكرَ
المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين
، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل
اجتناب الصَغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد
.
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في
أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟
فروي عنه - عليه الصلاة والسلام
- أنه قال : " لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به
حَذَراً مما به بَأسُ " . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين
يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته
بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها
إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ؛ كقوله تعالى : (
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ( [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد ) أؤلئك
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( [ الحجرات : 3 ] ، ) قَوْمَ
فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( [ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة
كقوله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ ( [
الأعراف : 96 ] ، ) وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ اتَّقُونِ ( [ المؤمنون : 52 ]
.
" "
صفحة رقم 277 " "
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : ( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة
الإخلاص كقوله : ( فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى لْقُلُوبِ ( [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص
القلوب .
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف
بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي ؟
والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين ؟
والجواب : أن القرآن
كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً
دلالة للكافرين ؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين
اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( [
النازعات : 45 ] وقال : ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ( [ يس : 11 ]
.
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن
هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى
المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه ؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في
حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه
كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في
الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن
عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو
وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه ، ولأنا نرى
جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ،
وبعضها صريح في القدر ؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون
هدى ؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على
التعيين - وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى .
السؤال
الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا
استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته ، وفي
معرفة
" "
صفحة رقم 278 " "
النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم
يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق ؟
الجواب : ليس من شرط
كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك
بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه
الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي
" "
صفحة رقم 279 " "
العموم ، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد
في اللَّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات
النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي
بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما
ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله : (
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ( [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك
لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ قلنا :
من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على
الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال
.
( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (
" الذين " يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر
، وهو من ثلاثة أوجه :
" "
صفحة رقم 280 " "
أظهرها : أنه نعت ل " المتقين " .
والثاني : بدل
.
والثالث : عطف بيان .
وأما الرفع فمن وجهين :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ
محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان :
أحدهما : " أولئك " الأولى .
والثاني : " أولئك " الثانية ، والواو زائدة ،
وهذان القولان منكران ؛ لأنه قوله : " والذين يؤمنون " يمنع كونه " أولئك " الأولى
خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
والنصب على القطع .
و
" يؤمنون " صلة وعائد .
قال الزمخشري : " فإذا كان موصولاً كان الوقف على "
المتقين " حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً " .
وهو مضارع
علامة رفعه " النون " ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع
اتصل به " ألف " اثنين ، أو " واو " جمع ، أو " ياء " مخاطبة ، نحو : " يؤمنان -
تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين " .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون
توكيد أو إناث ، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب
.
وهو مضارع " أمن " بمعنى : صدق ، و " آمن " مأخوذ من " أمن " الثلاثي ،
فالهمزة في " أمن " للصّيرورة نحو : " أعشب المكان " أي : صار ذا عُشْب .
أو
لمطاوعة فعل نحو : " كبه فأكب " ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد
يتعدّى باللام كقوله تعالى : ( وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( [ يوسف : 17 ] ، )
فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى ( يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية
بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل " يؤمنون " : " يؤأمنون " بهمزتين
:
الأولى : همزة " أفْعَل " .
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الولى ؛ لأن همزة "
أفْعَل " تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : طأكرم " و " يكرم "
و " أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم " .
وإنما حذفت ؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان
، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو : " أنا أكرم " ، الأصل : أأكرم بهمزتين ،
الولى : للمضارعة والثانية : همزة أفعل ، فحذفت الثانية ؛ لأن بها حصل الثّقل ؛
ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب
.
" "
صفحة رقم 281 " "
ولا يجوز ثبوت همزة " أفعل " في شيء من ذلك إلا في ضرورة ؛
كقوله : [ الرجز ]
119 - فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا
وهمزة " يؤمنون
" - وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفاً متجانساً نحو
: " راس " و " بير " و " يومن " ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو
: " إيمان " و " آمن " .
فصل
قال بعضهم : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ
الْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( يحتمل أن
يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً
للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : " الذين يؤمنون " .
وإما
أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصَّلاة والصدقة ؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ،
وأصلها الصَّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام
: " الصَّلاَة عِمَاد الدِّين ، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام " أما التَّرْك فهو
داخل في الصَّلاة ، لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ
وَالْمُنْكَرِ ( [ العنكبوت : 45 ] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على
أربع فرق :
الفرقة الاولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ،
والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث .
أما الخوارج
فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلاً
عقلياً ، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به
من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو
الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ،
" "
صفحة رقم 282 " "
أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء ،
فالمراد به التصديق ؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ،
فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام
وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة .
أما إذا ذكر
مطلقاً غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي - الذي هو
التصديق - إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أن الإيمان عبارةٌ
عن فعل كل الطَّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ،
أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ ، وأبي الهذيل ، والقاضي عبد الجبار بن
أحمد .
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل ، وهو قول أبي علي
وأبي هاشم .
" "
صفحة رقم 283 " "
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [ اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد
. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ] .
فالمؤمن عند الله كل من
اجتنب ] كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول
النّظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر
كلها .
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو
الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها
إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار
القلب كفر ، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات
إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد
الجثحُود والإنكار ؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد
بن كلاب .
والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ،
وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد
انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه .
ومنهم من قال : الإيمان اسم
للفرائض دون النوافل .
الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللِّسان والقَلْب
نعاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :
الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة
بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين
:
" "
صفحة رقم 284 " "
أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فَسَّرها
بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو كان علماً صادراً عن الدليل -
وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم .
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من
الاستدلال .
وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ
بماذا ؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ،
ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير
من عداها من الطوائف .
وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة
كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً
بالعلم ، أو عالماً بذاته ، وبكونه مرئياً أو غير مرئي ، لا يكون داخلاً في مسمى
الإيمان .
القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول
بشر بن غياث المَرِيسِي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم
القائم بالنفس .
الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ،
وهؤلاء اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ ، حتى إن
من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان
، وهو قول جهم بن صَفْوَان .
" "
صفحة رقم 285 " "
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير
داخلةٍ في حَدّ الإيمان .
وحكى الكعبي عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة
كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد .
ثانيهما : أنّ الإيمان مُجَرَّد
التصديق بالقَلب ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي .
الفرقة الرابعة الذين
قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :
الأول : أن الإقرار
باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة
شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان ، وهو قول
غيلان بن مسلم الدّمشقي ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل " غيلان
" . الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن
المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم
الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع .
و
" بالغيب " متعلّق ب " يؤمنون " ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل ، أو اسم
المفعول ، وفي هذا الثاني نظر ؛ لأنه من " غاب " وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم
مفعول من " فَعَّلَ " مضعفاً متعدياً ، أي : المُغَيَّب ، وفيه بعد . وقال الزمخشري
: يجوز أن يكون مخففاً من " فَيْعِل " نحو : " هَيِّن " من " هَيْن " ، و " مَيِّت
" من " مَيْت " . وفيه نظر ؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً
كنظائره ، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا
خاصّة . ويجوز أن تكون " الباء " للحال فيتعلّق بمحذوف أي :
يؤمنون
" "
صفحة رقم 286 " "
متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و " الغيب " حينئذ مصدر على
بابه .
فصل في معنى " يؤمنون بالغيب "
في قوله " يؤمنون بالغيب " قولان
:
الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : " يؤمنون بالغيب " صفة المؤمنين
معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين
الذين " إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، آمَنَّ : وَإذَا خَلوا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ " .
نظيره قوله : ( ذ الِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِ الْغَيْبِ ( [ يوسف : 52 ] ، وذلك مدح للمؤمنين
بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين .
الثاني : وهو قول جمهور
المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى
ما هو عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل .
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين
بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا
يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم
بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً
لاستحقاق الثَّنَاء العظيم .
واحتج أبو مسلم بأمور :
الأول : أن قوله : ( و
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِ
الآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( [ البقرة : 4 ] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان
المراد من قوله : " الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ " هو الإيمان بالأشياء الغائبة
لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز .
الثاني : لو حملناه على الإيمان
بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : (
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ( [ الأنعام : 59 ]
وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب . أما على قولنا فلا
يلزم هذا المحذور . الثالث : لفظ " الغيب " إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور
، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته ، فقوله : "
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه
الإيمان بذت الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غَيْرُ جائز ؛ لأن
الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي
خروج الأصل ؟
" "
صفحة رقم 287 " "
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور .
والجواب عن الأول :
أن قوله : " يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله
بعد ذلك : " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " يتناول الإيمان
ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : (
وَمَلا ائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( [ البقرة : 98 ] .
وعن الثاني : لا
نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين
جميعاً .
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا ؟
قلنا : قد بينا أن
الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه .
أما الذي عليه دليل فلا
يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء :
الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة .
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ
الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور ، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين
يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته
، والله أعلم .
واختلفوا في المراد ب " الغيب " .
قال ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما : " الغيب - ها هنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل :
الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان " .
وقيل : الغيب
هاهنا هو الله تعالى .
وقيل : القرآن .
وقال الحسن : الآخرة .
وقال زرُّ
بن حبيش ، وابن جريج : بالوحي .
" "
صفحة رقم 288 " "
ونظيره : ( أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ( [ النجم : 35 ] قال
ابن كيسان : بالقدر .
وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ
، فذكرنا أصحاب رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وما سبقوا به ، فقال عبد الله
: إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من
إيمان الكتب ، ثم قرأ : " الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " إلى قوله "
المفلحون " .
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدي المنتظر .
قال ابن
الخطيب : " وتخصص المطلق من غير دليل باطل " .
قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو وورش :
" يُؤمِنُونَ " ، بترك الهمزة .
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في )
أَنبِئْهُمْ ( [ البقرة : 33 ] ، و ) يُنَبِّئُهُمُ ( [ المائدة : 14 ] ، و )
نَبِّئْنَا ( [ يوسف : 36 ] .
ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامةً للجزم
نحو : ( وَنَبِّئْهُمْ ( [ الحجر : 51 ] ، " وأَنبئْهُمْ " ، و ) تَسُؤْهُمْ ( [ آل
عمران : 120 ] ، و ) إِن نَّشَأْ ( [ الشعراء : 4 ] ونحوها ، أو يكون خروجاً من
لُغَةٍ إلى أخرى نحو : ( مُّؤْصَدَةُ ( [ البلد : 20 ] ، و ) وَرِءْياً ( [ مريم :
74 ] .
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت " فاء " الفعل ، إلا ) وَتُؤْوِى ( [
الأحزاب : 51 ] و ) تُؤْوِيهِ ( [ المعارج : 13 ] ، ولا يترك من عين الفعل إلا )
الرُّؤيَا ( [ الإسراء : 60 ] وبابه ، أو ما كان على وزن " فعل " . و " يقيمون "
عطف على " يؤمنون " فهو صلةٌ وعائد .
وأصله : يؤقومون حذفت همزة " أفعل " ؛
لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ،
ففعل فيه ما فعل في " مستقيم " ، وقد تقدم في الفاتحة . ومعنى " يقيمون " : يديمون
، أو يظهرون ، قال تعالى : ( عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ( [ المعارج : 23 ] وقال
الشاعر : [ الوافر ]
120 - أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ
البطْ
طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا
وقال آخر : [ الكامل
]
" "
صفحة رقم 289 " "
21 - وَإِذَا يُقَالُ : أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا
حَتَّى
تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ
من قامت السّوق : إذا أنفقت ؛ لأنها إذا حوفظ
عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء
الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع
خَلَل في فرائضها وسُننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق .
وفي
ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن
التجرُّد لأدائها ، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور ، أو يكون عبارةً عن أدائها ،
وإنما عبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت .
وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : ( فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِ
الْحَقِّ ( [ البقرة : 213 ] يعني : الكتب .
و " الصّلاة " مفعول به ، ووزنها :
" فَعضلَة " ، ولامها واو ، لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها
فقلبت ألفاً ، واشتقاقها من : " الصَّلَوَيْنِ " وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ
مفترقان من " الصّلاَ " ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان
عند عَجَبِ الذَّنْبِ ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ ، ومنه " المُصَلِّي " في
حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند " صَلَوَي " السابق . ذكره الزَّمخشري
.
قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة ؛ وذلك لأن
لفظ " الصلاة " من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين ،
واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل ، ولو
جوزنا أن [ يقال ] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار
بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما
قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني
في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر ، وكان مراد
الله - تعالى - تلك المعان ] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا ، واندرست كما
وقع مثله في هذه اللَّفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق
الذي ذكره مردود باطل . وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام
- بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شَكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج
إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور .
وأما ما ذكره من
احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا
.
" "
صفحة رقم 290 " "
و " الصَّلاة " لغة : الدّعاءُ : [ ومنه قول الشاعر ] [
البسيط ]
122 - تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً
يَا رَبِّ
جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ
فَاغْتَمِضِي
يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً
أي : مثل الَّذي
دعوت ، ومثله : [ الطويل ]
123 - لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ
بَيْتَهَا
وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
وفي الشرع : هذه
العبادة المعروفة .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : " صَلِيَ بِالنَّارِ "
أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : ( تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ( [ الغاشية : 4 ] قال
: [ الخفيف ]
124 - لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ
هُ وإِنِّي
بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار ، أي :
قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء - وهو حَرّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ ، وإن كَسَرْتَ
مَدَدْتَ ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه ؛ قال : [ الوافر ]
125 - فَلاَ تَعْجَلْ
بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ
فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ
ذكر ذلك
الخَارزنجِيّ ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن " الصلاة " من ذوات الواو ، وهذا من
الياء . وقيل في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
لنَّبِيِّ ( [ الأحزاب : 56 ] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة
الاسْتِغْفَار ، ومن المؤمنين الدعاء .
) وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ( مما : جاء
ومَجْرور متعلّق ب " ينفقون " و " ينفقون " معطوف على الصّلة قبله ، و " ما "
المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون اسماً بمعنى " الذي " ، و "
رزقناهم " صِلَتِهَا ، والعائد محذوف .
قال أبو البقاء : " تقديره رزقناهموه ،
أو رزقناهم إياه " .
" "
صفحة رقم 291 " "
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال ؛ لأن تقديره متصلاً
يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلاً
يمنع حذفه ؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه ، نصُّوا عليه ، وعللوا بأنه
لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض .
ويمكن أن يجاب عن
الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله ؛
ويكون كقوله : [ الطويل ]
126 - فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ
لِضَغْمَةٍ
لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا
وأيضاً فإنه لا يلزم
من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي .
وعن الثَّاني :
بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها
موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً .
الثَّالث : أن تكون مصدريةً ، ويكون المصدر
واقعاً موقع المفعول أي : مرزوقاً . وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال : " لأنَّ
الفعل لا يتفق " ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول . والرزق لغة :
العَطَاء ، وهو مصدر ؛ قال تعالى : ( وَمَن رَّزَقْنَ اهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً (
[ النحل : 75 ] وقال الشَّاعر : [ البسيط ]
127 - رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ
تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ
إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وقيل :
يجوز أن يكون " فِعْلاً " بمعنى " مفعول " نحو : " ذِبْح " ، و " رِعْي " بمعنى : "
مَذْبوح " ، و " مَرْعيّ " .
وقيل : " الرِّزْق " - بالفتح - مصدر ، وبالكسر اسم
، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ ( [ الواقعة : 82 ] .
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى
الولد والعَبْد .
وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره .
ثم قال
بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق
مما رزقنا فقال : ( وَأَنفِقُواْ مِن مَّا ( [ المنافقون : 10 ] ، فلو كان الرزق هو
الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه .
" "
صفحة رقم 292 " "
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً ؛ لأن الإنسان
قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا
الزَّوجة ، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به ، والعقل لي بمملوك ، وأيضاً
البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك . وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه ،
فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء ،
والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به .
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ،
فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا
مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ .
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا
الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً . وقال أصحابنا : الحرام قد
يكون رزقاً .
قال ابن الخطيب : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق
في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار
حظَّا ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له .
الثَّاني : أنه تعالى قال : ( وَمَا
مِن دَآبَّةٍ فِى لأَرْضِ إِلاَّ عَلَى للَّهِ رِزْقُهَا ( [ هود : 6 ] ، وقد يعيش
الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من
رزق شيئاً .
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب ، والسُّنة ، والمعنى :
أما
الكتاب فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( [
البقرة : 3 ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن
يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .
ثانياً : لو كان
الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : ( مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ (
[ المنافقون : 10 ] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه
] ، بل يجب رَدّه ، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً . ثالثها : قوله تَعَالى :
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ
مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ( [ يونس : 59 ] فبين أن
من حرم رزق الله ، فهو مُفْتَرٍ على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً .
وأما
السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب " الفرائض " بإسناده عن صفوان بن
أمية
" "
صفحة رقم 293 " "
قال : " كنا عند رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - إذْ
جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة ، فلا
أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي ، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ . فقال
عليه الصّلاة والسلام : " لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ
الله لقد رزقك الله [ رزقاً ] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على
ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً
ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً " . وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من
الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به
لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد
منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا
أمر بمنعهم منه .
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله ،
فإنه لا يُضَاف إليه ذلك ؛ لما فيه من سُوءِ الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات
والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكِلاَب والخَنَازير ، وقال : ( يَشْرَبُ
بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( [ الإنسان : 6 ] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان
الكُفَّار أيضاً من العباد ، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ،
وإن كان الحرام رزقاً أيضاً .
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا ؛ لأن
قوله عليه الصلاة والسلام : " فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه " صريح
في أن الرزق قد يكون حراماً .
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة ،
وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله
أعلم .
و " نفقط الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ
على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ "
نفذ " " نَفَشَ " " نَفَحَ " " نفخ " " نفض " " نفل " .
" "
صفحة رقم 294 " "
و " نفق " الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة : ماتت
نُفُوقاً ، والنفقة : اسم المُنْفَق .
فصل في معاني " من "
و " من " هنا
لابتداء الغاية .
وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أخر :
بيان الجنس : ( فَ
اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ( [ الحج : 30 ] .
والتعليل : (
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ ( [ البقرة : 19 ]
.
والبدل : ( بِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ( [ التوبة : 38 ]
.
والمُجَاوزة : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ( [ آل عمران : 121 ]
.
وانتهاء الغاية : " قربت منه " .
والاستعلاء ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ
الْقَوْمِ ( [ الأنبياء : 77 ] .
والفصل : ( يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ ( [ البقرة : 220 ] .
وموافقة " الباء " ) يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ
خَفِيٍّ ( [ الشورى : 45 ] ، ) مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ ( [ فاطر : 40 ]
.
والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب . واشترط
الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئاً . و " الهمزة " في " أنفق "
للتَّعدية ، وحذفت من " ينفقون " لما تقدم في " يؤمنون " .
فصل في قوله تعالى "
ومما رزقناهم ينفقون "
قال ابن الخَطِيبْ : في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ ( فوائد :
إحداها : أدخل " من " للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف
والتَّبذير المنهي عنه .
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ ، كأنه
قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في
الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :
أحدها :
الزكاة وهي قوله تعالى : ( يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا
( [ التوبة : 34 ] .
وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته
.
وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله
تعالى : ( وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ
أَحَدَكُمُ ( [ المنافقون : 10 ] ، وأراد به الصدقة ؛ لقوله بعد : (
فَأَصَّدَّقَ
" "
صفحة رقم 295 " "
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ( [ المنافقون : 10 ] فكل هذه
داخلةٌ تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح .
( والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ (
" والَّذِين " عطف على " الذين " قبلها ، ثم لك اعتباران
:
أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [ المتقارب ]
128
- إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي
الْمُزْدَحَمْ وقوله : [ السريع ]
129 - يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ
الصْ
صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ
يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن
قيل : إن المراد بها واحد .
والثاني : أن يكونوا غيرهم .
وعلى كلا القولين ،
فيحكم على موضعه بما حكم على موضع " الَّذِين " المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً
وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله .
ويجوز أن يكون عطفاً على " المتقين " ،
وأن يكون مبتدأ خبره " أولئك " ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير " الذين " الأولى . و
" يؤمنون " صلة وعائد .
و " بما أنزل " متعلّق به و " ما " موصولة اسمية ، و "
أنزل " صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل ،
ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا
عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل .
" "
صفحة رقم 296 " "
و " إليك " متعلّق ب " أنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاء الغاية
، ولها معان أخر :
المُصَاحبة : ( وَلاَ تَأْكُلُو ا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ ( [ النساء : 2 ] .
والتبيين : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
( [ يوسف : 33 ] .
وموافقة اللام و " في " و " من " : ( وَالأَمْرُ إِلَيْكِ ( [
النمل : 33 ] أي : لك .
وقال النابغة : [ الطويل ]
130 - فَلاَ تَتْرُكَنِّي
بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي
إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال
الآخر : [ الطويل ]
131 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي : لا يروى منّي ، وقد
تزاد ؛ قرىء : " تَهْوَى إليهم " [ إبراهيم : 37 ] بفتح الواو .
و " الكاف " في
محل جر ، وهي ضمير المُخَاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً
وتأنيثاً ك " تاء " المُخَاطب .
ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون ، وأبو
عمرو ، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها .
و " النزول "
الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ ، قال تعالى : ( فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ
( [ الصافات : 177 ] أي حلّ ووصل .
قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي ،
وكون القرآن منزلاً ، ومنزولاً به -
" "
صفحة رقم 297 " "
أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول
به ، كما يقال : نزلت
" "
صفحة رقم 298 " "
رسالة الأمير من القَصْر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع
يسمع الرسالة من عُلوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته ، ولكن
السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به
في موضع آخر .
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف
والأصوات عندكم ؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه ، ثم أقدره
على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في
اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه ،
ويجوز أن يخلق الله
" "
صفحة رقم 299 " "
أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه
جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك
الكلام القديم .
فصل في معنى فلان آمن بكذا
قال ابن الخطيب : لا نزاع بين
أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب " الباء " فالمراد منه التصديق
.
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه
صام وصلى ، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق ، لكن لا بُدّ معه من المعرفة ؛ لأن
الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً ، فهو
إلى الذَّم أقرب .
و " ما " الثانية وَصِلَتُهَا عطف " ما " الأولى قبلها ،
والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على " ما " التي قبلها ، فتأمله .
واعلم
أن قوله : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه
الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو
لم يكن مؤمناً بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : ( و الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ( [ البقرة : 4 ]
يعني : التوراة والإنجيل ؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله : (
وَمَلا ائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( [ البقرة : 98 ] ، ثم في
تخصيص عبد الله بن سلام ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين ، فهذا
هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام .
و " من قبلك " متعلّق ب " أنزل " ، و
" من " لابتداء الغاية ، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض " بعد " ،
وكلاهما متى نُكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً ، وأريدت معنى بني
على الضم ، فمن الإعراب قوله : [ الوافر ]
132 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ
وَكُنْتُ قَبْلاً
أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ
الْقَرَاحِ
" "
صفحة رقم 300 " "
وقال الآخر : [ الطويل ]
133 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ
أُسْدَ خَفِيَّةٍ
فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء
قوله تعالى : ( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( [ الروم : 4 ] وزعم
بعضهم أن " قبل " في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً .
فإذا قلت : " قمت قبل
زيد " فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل
زيد ] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله .
واعلم أن حكم " فوق وتحت وعلى وأول " حكم
" قبل وبعد " فيما تقدّم .
وقرىء : " بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ " مينياً للفاعل ،
وهو الله - تعالى - أو جبريل ، وقرىء أيضاً : " بِمَا أُنْزِلّ إلَيْكَ " بتشديد
اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله : [ الرمل ]
134
- إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ
بتسكين " خُلط " ثم حذف
همزة " إليك " ، فالتقى مِثْلاَن ، فأدغم لامه .
و " بالأخرة " متعلّق ب "
يوقنون " ، و " يوقنون
" خبر عن " هم " ، وقدّم المجرور ؛ للاهتمام به كما قدم
المنفق في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( [ البقرة : 3 ] لذلك ،
وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة
هنا من مبتدأ وخبر لخلاف : " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ؛ لأن وصفهم
بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة
الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : " ومما رزقناكم هم ينفقون " .
والمراد
من الآخرة : الدَّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا
.
" "
صفحة رقم 301 " "
والآخرة تأنيث آخر مقابل ل " أول " ، وهي صفة في الأصل جرت
مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، والنشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين
الموصوفين ، قال تعالى : ( وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ ( [ الأنعام : 32 ] وقال :
( ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ( [ العنكبوت : 20 ] .
و "
يوقنون " من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن " أفعل " [ يأتي ] بمعنى : "
استفعل " أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم .
وقيل : اليقين هو
العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه