قال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) :
1-
قال ابن جرير بعد ذكره قصة أصحاب
الأخدود : وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالصواب للذي ذكرنا عن الربيع من العلة :
وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم ، ولو لم يكونوا أحرقوا في
الدنيا لم يكن لقوله (ولهم عذاب الحريق) معنى مفهوم من إخباره أن لهم عذاب جهنم ،
لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابهما في الآخرة .
2-
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) : أي حرقوهم بالنار ،
فلهم عذاب جهنم لكفرهم ، ولهم الحريق في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار
.
وقيل (جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ) أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا
المؤمنين .
3- ذكر المفسر
الألوسي نقلاً عن ابن جرير وغيره : إن الله بعض على المؤمنين ريحاً تقبض أرواحهم
قبل الوصول إلى النار ، وأن النار خرجت فأحرقت الكفار الذين كانوا على حافتي
الأخدود . ويدل لهذا قوله تعالى : ( قتل أصحاب الأخدود) ، وقوله تعالى : ( ولهم
عذاب الحريق) .
من فوائد
القصة :
1-
كل مولود يولد على الفطرة ، فاقتضت
الفطرة السليمة أن تكون مع الحق والخير دائماً وترفض الشر ، فوجهت الغلام نحو الخير
حين سمع الحق من الراهب ونبذت الشر المتمثل في الساحر الكافر .
2- لا بأس
بالكذب للنجاة من كيد الكافرين عند الضرورة .
3-
علم الغلام بفطرته أن الحق مع الراهب
ولكن أراد أن يقيم الحجة (مثل إبراهيم عليه السلام) حيث أقام الحجة على قومه .
4-
الدعاء إلى الله أن يظهر له الحق
ويبين له وجه الصواب ويقطع الشك باليقين ، وهذا شأن المؤمن يلجأ إلى الله دائماً
لحل مشاكله .
5-
إماطة الأذى عن الطريق وتخليص الناس
من كرب وقعوا فيه ، مشروع ومطلوب يؤجر المسلم عليه ، كما صرحت بذلك الأحاديث .
6- المؤمن
الصادق هو الذي ينسب فعل الكرامة إلى الله وليس إلى نفسه .
7- الاعتراف
بالفضل ولو إلى غلام صغير : ( أي بني أنت اليوم أفضل مني) .
8-
كل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،
وصدع بالحق لا بد من أن يبتلى ، وعليه بالصبر ، وله الأجر الكبير عند الله ، قال
تعالى على لسان لقمان يوصي ولده (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
9-
كل من أخطأ في تعبيره لا يترك في خطئه
، بل يبين له وجه الصواب ، لا سيما في عقيدة التوحيد ، فالغلام يقول للوزير : إني
لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، وهذا مطابق لقول الله تعالى عن إبراهيم
عليه السلام : (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
10-
إن لله رجالاً أقوياء بإيمانهم ،
فمهما عذبوا لا يرجعون عن دينهم ، ولا يرضون الطغاة بكلمة فيها ضعف أو كفر ، ولو
حرقوا ، أو نشروا أو أغرقوا وهو الأفضل وقد أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ، وقد سمح الله للمؤمن أن ينطق بالكفر إذا أكره
عليه فقال سبحانه وتعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
.
11-
لا بد لكلمة الحق أن تنتصر ، فالملك
يعجز عن قتل الغلام ، ولا يتم له ذلك إلا بطريقة يرسمها الغلام للملك ، يعقبها
إيمان الشعب وانحدار الملك ، ويتحقق قول الله تعالى : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) .
12-
الغلام المؤمن يضحي بنفسه ليؤمن الناس
، وهذا شأن المؤمنين المخلصين يسعون لإنقاذ أمتهم ، ولو أدى ذلك إلى استشهادهم ،
فهم إلى الجنة ذاهبون ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
.
13-
يثبت الله المؤمنين بالحجج البينات ،
ويؤيد دينهم بالكرامات ، فهذا هو الرضيع ينطق (يا أمه إصبري فإنك على الحق) . والأم
تستجيب لهذا الأمر ، وتلقي بنفسها مع طفلها صابرة محتسبة .
14-
مصير المؤمنين إلى الجنة بعد موتهم ،
ومصير هؤلاء الكفار الحرق في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة .